لا يستقيم الحديث عن الشهادة المسيحيّة من دون الحديث عن محوريّة الصليب ومركزيّته في حياة السيّد المسيح. فالصليب هو زبدة تعاليم المسيح وخلاصتها، وهو الدرب الوحيد المؤدّي إلى الكمال المدعو إليه المؤمنون بالمصلوب والقائم من بين الأموات. لذلك، ليس الصليب مجرّد شعار نرفعه هنا وثمّة، بل هو نهج حياة واقتداءٌ بسيرة السيّد المسيح من ألفها إلى يائها.
يقول ترتليانوس القرطاجيّ (+240): “إنْ شئتَ أن تكون تلميذ الربّ، فعليك أن تحمل صليبك وتتبع الربّ. صليب الربّ يعني ضيقه وآلامه في جسده الذي هو (معلَّقًا على الخشبة) على شكل صليب”. قد يبدو صعبًا ومؤلـمًا التمسّك بما يطلبه الربّ ممّن يريد أن يتبعه، غير أنّ المغبوط أوغسطينوس أسقف عنّابة في الجزائر (+430) يقول: “فما يأمر به الربّ يبدو صعبًا، لكنّ الحبّ يجعله سهلاً”. الصليب هو علامة الحبّ المجّانيّ تجاه كلّ البشر من دون استثناء، كما أحبّ الله العالم من دون شروط. فحاشا أن نحوّل علامة الحبّ هذه إلى أداة للقتل أو للكراهية.
يرد في سيرة استشهاد القدّيسين الشهداء الأربعين في سبسطية (عيدهم في التاسع من شهر آذار) أنّ أحد الذين كانوا من ضمن الأربعين المدانين بالموت تخلّى عن إيمانه بعد أن غلبته شدّة العذاب. بيد أنّ أحد الحراس الحاضرين “ألقى ثيابه وانضمّ إلى الشهداء صارخًا على مثالهم أنّي مسيحيّ. فأدهشهم باهتدائه الفجائيّ وأكمل عددهم”. ويعلّق القدّيس باسيليوس الكبير (+379) على هذه الحادثة بالقول: “آمن باسم ربّنا يسوع المسيح واعتمد به لا عن يد آخر بل بإيمانه عينه. لا بالماء ولكن بدم نفسه”. الصليب هو معموديّة الدم التي تختم معموديّة الماء بختم الشهادة.
إذا كان ما نقوله بديهيًّا في التراث المسيحيّ المليء بالعبر التي تؤكّده، فما يثير الدهشة هو أنّ التراث الإسلاميّ يمتدح بدوره شجاعة المسيحيّين أمام الصعاب التي تواجههم. وهذا التراث الإسلاميّ، الذي ينفي حادثة صلب السيّد المسيح بناءً على ما ورد في القرآن (سورة النساء، 157)، لا يتوانى عن ذكر الصليب مثالاً على صبر المؤمنين أمام الشدائد التي تعترضهم.
يرد في “تاريخ مدينة دمشق” لابن عساكر أنّ النبيّ محمّد أوصى أصحابه قائلاً: “كونوا كحواري (تلاميذ) عيسى بن مريم، رُفعوا على الخشب وسُمّروا بالمسامير، وطُبخوا في القدور، وقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وسُمّرت أعينهم. فكان ذلك البلاء والمقتل في طاعة الله أحبّ إليهم من الحياة في معصية الله”. أمّا مناسبة هذا الحديث النبويّ فهي أنّ أحد الملوك، “وكان جبارًا وطاغيًا”، أمر أحد التلاميذ بعد القبض عليه قائلاً: “تبرّأ، ويلك، من عيسى”. فأجابه: “لا أفعل”. فقال الملك: “إنْ لم تفعل قطعت يديك ورجليك وسمّرت عينيك”. فقال: “افعلْ ما أنت فاعل”. فقطع يديه ورجليه وسمّر عينيه، ثمّ ألقاه على مزبلة في وسط المدينة.
وفي حديث آخر يرد أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب حزن جدًّا على ما وصل إليه الزمان من ابتعاد الناس عن التزام تعاليم الله، فيقول لأتباعه: “كونوا كأصحاب عيسى، نُشروا بالمناشير، وصُلبوا على الخشب. موتٌ في طاعة الله، عزّ وجلّ، خيرٌ من حياة في معصية الله”. أمّا أبرز الصفات التي يمتدحها محمّد لدى تلاميذ المسيح فهي: “كانوا بلا زهو فيهم ولا ضعف ولا شكّ. كانوا ينصرونه على بصيرة ونفاذ وجدّ وعناء”.
ما يعنينا في هذه الأحاديث إنّما هو التقدير الكبير الذي يبديه التراث الإسلاميّ نحو تلاميذ المسيح. فهو يعتبرهم مثالاً يحتذى ليس لدى المسيحيّين وحسب، بل أيضًا لدى المسلمين؛ مثالاً للإيمان الخالص والثبات عليه حتّى وإن اقتضى الأمر الاستشهاد وبذل الذات في سبيل ما يؤمنون به، فلا يخونون رسالتهم وأمانتهم لما ارتضوه لهم من انتماء وهويّة.
التحدّي الذي يواجهه المسيحيّون، في ما يجري في أوطانهم، إنّما هو تحدٍّ حياتيّ أكثر ممّا هو تحدّ عقائديّ. فهم مدعوون، اليوم أكثر من أيّ زمن مضى، إلى مواجهة الاستبداد والظلم بالسعي الدائم إلى الاقتداء بعظمائهم من المسيح الذي احتمل الصليب طائعًا، وصولاً إلى القدّيسين والأبرار الذين اقتدوا به حتّى الاستشهاد على الصليب وعدم إنكارهم له، كي ينسجموا مع ما يقوله إيمانهم بالأفعال لا بالأقوال وحسب.