وعلى طاولات الكتابة.
الأناجيل تعود أولاً إلى تقليد شفهي في الجماعة المؤمنة، ومن هذا التقليد رويدًا رويدًا ظهرت الحاجة لتنظيم المتناقل وكتابته للحفاظ عليه. والمرحلة الأولى لم تكن كتابة أناجيل كاملة بل مجموعات من الأقوال والأحداث المتعلقة. إحدى هذه المجموعة تسمى “المصدر ق” (Q, quelle أي ’مصدر‘ بالألمانية) هي ما يعتقد معظم دارسي الكتاب المقدسة أنها وراء المواد المشتركة في الأناجيل الإزائية وبشكل خاص في إنجيلي متى ولوقا.
الدستور العقائدي “كلمة الله” (Dei Verbum) يقدم لنا ملخصًا هامًا عن خصائص نشأة الأناجيل فيقول: «فالرسل، بعد صعود الرب نقلوا إلى مستمعيهم أقوالَ المسيح وأعمالَه، بذلك الفهم المُتكامل الذي توصَّلوا إليه عن طريقِ أحداثِ المسيحِ المجيدة التي درَّبتهم، ونور روح الحق الذي علَّمهم (32) و (33). أما المؤلِّفون القدِّيسون فقد كتبوا الأناجيل الأربعة وإختاروا بعضَ ما كان يُنقل بغزارةٍ، شفوياً أو كتابةً، وأَوجزوا البعض الآخر أو فسَّروه مع مراعاة ظروف الكنائس، وإحتفظوا أخيراً بأسلوبِ الكرازة بحيث أنَّهم أعطونا دوما عن يسوع ما هو حقٌّ وصادق (34). ولقد كتبوا بتلك النيَّة، سواء تدفقت الأمور من ذاكرتهم وذكرياتهم الشخصية أو صَدَرَت عن شهادة أولئك الذين “عاينوا بأنفسهم منذ البدء وكانوا خداماً للكلمة، لنعرف (حقيقة) الكلام الذي تعلمناه” (راجع لو 1/ 2 – 4)« (عدد 19).
هذا النص المقتضب هو كنز ثمين يلخص عملاً تأليفيًا هامًا ويقدم لنا برؤوس أقلام ما جرى. سنتوقف على الكلمات الأساسية. فبعد تبشير الرسل الشفهي قام “المؤلفون القديسون” المعروفون بـ “الإنجيليين” بعمل ذي خصائص خمسة هي التالية:
الاختيار: فقد قاموا باختيار بعض المواد من الكثيرة المتداولة.
التلخيص: فقد أوجزوا بعض الأمور لكي تتناسب مع الأسلوب المكتوب.
التفسير: لقد توجهوا إلى كل جماعة مراعين طبيعتها وفهمها ولذا عنوا بتفسير الأمور وبمطابقتها لفهم السامعين وثقافتهم.
الأسلوب: وقد اعتمدوا في الكتابة أسلوبًا معينًا هو أسلوب التبشير والوعظ.
الغاية: وغايتهم من ذلك كانت أن يقولوا “ما هو حق وصادق” بشأن يسوع.
وعليه فعمل الإنجيليين كان عمل بحث، تلخيص وتطبيق على الحالات الخاصة ولكن – كما يوضح فرنشيسكو لامبيازي، حرية الأناجيل هذه “كانت خاضعة دومًا للتقليد ولم تكن أبدًا على حسابه”. بكلمات أخرى، “لقد قام الإنجيليون بعمل تطبيق وتفسير وبوضع النصوص في إطارات محددة، ولكنهم لم يخترعوا شيئًا ولم يزوروا شيئًا”. والدليل على ذلك هو أن الصورة التي يقدمونها عن يسوع، رغم أنها تعبّر عن فرادة خبرة كل منهم، إلا أنها لا تقدم يسوعًا مختلفًا أو متناقضًا.
يقول القديس هيرونيموس: “جهل الكتب المقدسة هو جهل للمسيح”، أما مقاربة الأناجيل فهي تسمح لنا بأن نتواصل مع أصداء التبشير الأول، الذي يعبّر عن صفاء وزخم اللقاء الأول والمباشر بين التلاميذ الأولين والرب يسوع. في الأناجيل نسمع صدى “الكلمة” الرنان والعذب والخلاب، ولذا وحدها الاناجيل تستحق كل الاهتمام في سعينا للقاء حقيقي وَحَيّ بيسوع المسيح.
زينيت