“أنا الكرمة الحقيقيّة وأبي الكرّام (…) وأنتم الأغصان” (يوحنّا 15، 1 و5). لا ريب في أنّ يسوع ابتغى من مثل “الكرمة والأغصان”، أن “يبيّن لنا أهمّيّة المحبّة المرتبطة به، ومقدار الربح الذي نجنيه من الاتّحاد به. لذلك يقول إنّه الكرمة كعِبرة ومثل. الأغصان تمثّل المتّحدين به والمرتبطين به والمتعلّقين به والمشاركين في طبيعته عبر نيلهم موهبة الروح القدس” (القدّيس كيرلّس الإسكندريّ).
“كلّ غصن فيّ لا يُثمر يقطعه. وكلّ غصن يُثمر يشذّبه ليكثر ثمره” (يوحنّا 1، 2). يحذّر القدّيس كيرلّس المؤمنين من عدم ربط الإيمان بالأعمال، فيقول: “(إذا اكتفينا) باعترافات إيمانيّة عارية مجرّدة – من دون الإمساك برباط الاتّحاد بأعمال شجاعة نابعة من المحبّة – سنكون أغصانًا ميتة وغير مثمرة. الإيمان من دون أعمال ميت كما يقول القدّيس يعقوب (في رسالته الجامعة 2، 20). فإذا ظلّ الغصن معلّقًا بالشجرة من دون ثمر، فاعلمْ أنّ شخصًا كهذا سيواجه مقصّ الكرام. فسيقطعه ويطرحه في النار كنفاية لا تنفع”. أمّا أقليمس الإسكندريّ (+216) فيقول: “الكرمة التي لا تُشذّب تصبح حطبًا. هكذا حال الإنسان. الكلمة سيف (نعم! السيف في الإنجيل المقدّس يرمز إلى الكلمة الإلهيّة) يطهّر تشوّه الأغصان، ويدفع النفس إلى أن تُثمر، لا أن تنهمك بالملذّات”.
رباط الاتّحاد ما بين المسيحيّين شرطه الوحيد هو “التقوى والقداسة”، وليس أيّ أمر دنيويّ آخر، لذلك يقول كيرلّس نفسه: “المسيح يريد أن يكون تلاميذه متحلّين بوحدة الفكر والإرادة، وأن يكونوا متّحدين بالنفس والروح وبرباط السلام والمحبّة بعضهم لبعض. إنّه يريدهم أن ينعموا بوحدة لا تنفصل ولا تنفصم، فلا تكون مشيئاتهم مشابهة لما هو في العالم، وقريبة من طلب الملّذات، بل أن يحافظوا على قوّة المحبّة في وحدة التقوى والقداسة”. الوحدة المسيحيّة ينبغي ألاّ تلغي التنوّع، على مثال الثالوث الأقدس حيث الوحدة في التنوّع، وحيث التنوّع في الوحدة.
“اثبتوا فيّ وأنا فيكم. وكما أنّ الغصن لا يثمر من ذاته إلاّ إذا ثبت في الكرمة، فكذلك أنتم لا تثمرون إلاّ إذا ثبتّم فيّ” (يوحنّا 15، 4). يقول أغوسطينُس المغبوط (+430): “ليس مسيحيًّا كلّ مَن يظنّ أنّه يثمر من تلقاء ذاته، لا من الكرمة… أمّا الذين يقولون: إنّنا أبرار من تلقاء أنفسنا… فهذا هو منتهى الكبرياء”.
في ظلّ الظروف الصعبة التي تمرّ بها بلادنا، لا بدّ من إيراد ما يقوله القدّيس يوستينوس الفيلسوف الشهيد الفلسطينيّ المولد (+165)، وكأنّه يتوجّه إلينا لكي نواجه هذه الظروف بالثبات على الإيمان. يقول يوستينوس: “واضحٌ أنّه ما من أحد يقدر على أن يُرعبنا ويستعبدنا نحن المؤمنين بالمسيح في الأرض كلّها. فعلى الرغم من قطع رؤوسنا وصلبنا وطرحنا للوحوش المفترسة، والأغلال، والنار، وكلّ أنواع التعذيب الأخرى، فإنّنا لا نتخلّى عن اعترافنا. واضحٌ أنّه، كلّما تكاثر حدوث ذلك، ازداد باسم يسوع عدد المتّقين الله. فإذا اقتطع أحدٌ ما أجزاء من كرمة مثمرة، تنبت أغصان أخرى فتنمو مزدهرة ومثمرة. الشيء نفسه يحدث لنا. فالكرمة التي غرسها الله المسيح المخلّص هي شعبه”.
كلام يوستينوس يصبح صحيحًا إذا ظلّ المسيحيّون أوفياء لربّهم ولتعاليمه، فلا تكون وحدتهم قائمة على مشاريع تتنافى ومبادئهم الإنجيليّة. الوحدة المسيحيّة إمّا أن تقوم على الإخلاص ليسوع المسيح، وإمّا سمّوها ما شئتم من الأسماء.
ليبانون فايلز