الرحلة الصيامية في الأربعين المقدسة هي سياحة ورحلة لزهر ربيع التوبة؛ نعمل فيها بالصوم والصلاة.. فهي رحلة (عمل)؛ عمل بهما إيليا فرفعه الله إلى السماء. عمل بهما دانيال فخلص من جُب الأسود. عمل بهما موسى فأخذ الناموس والوصايا المكتوبة بأصبع الله. عمل بهما أهل نينوى فرحمهم الله وغفر لهم خطاياهم ورفع غضبه عنهم. عمل بهما الرسل والصديقون ولُبّاس الصليب.. هي رحلة (عمل) ورحلة (فعل) الصوم.
لذلك رتبت الكنيسة هذا الصوم الربيعي للخزين والمؤونة والمباراة الروحية؛ لتجعل منه زمنًا تقديسيًا (قدسوا صومًا؛ نادوا بالاعتكاف) يوئيل ١:١٤.. نتدرب فيه على التوبة والرجوع وطاعة الوصية، ليس صومًا عن الأغذية؛ لكن صومًا من أجل اقتناء الكلمة التي تخرج من فم الله، فنرجع إليه من كل قلوبنا ونستعد للعبور لمعاينة الآلام الفصحية، بفعل جماعي وكلي لا يُستثنى منه أحدًا في الكنيسة كلها؛ ليصبح بذلك فعل وعمل الصوم للكنيسة كلها.
وتعلن الكنيسة قدوم الصوم في رحلة تبدأ بالرفاع والكنوز والتجربة والابن الراجع والسامرية والمخلع والمولود أعمى وصولاً إلى البصخة المقدسة، حتى نسير رحلة رجوعنا من منفىَ الغربة عن الله إلى فرح الشركة في بيت الآب ووليمته وختمه وشفائه واقتناء البُرء وبصيرة الماء الحي؛ بعيدًا عن جهالة وغباوة العصيان.
ولأننا عبيد بطالون بددنا غنانا الأبوي برداءتنا وغيّنا؛ فافتقرنا واعتزنا وأفلسنا ونالنا خزيٌ؛ وأتعبتنا حياتنا المخلعة التافهة العمياء عديمة الثمر، لذلك نصوم معًا صومًا جماعيًا لنرجع ونبصر ونُزهر ونثمر؛ عندما نلتقي عند بئر يعقوب الحقيقي ( المعمودية) بكوكب يعقوب المشرق علينا من العلا ،ليرتقي بنا علي سلم يعقوب فنصل الي مدارات ملكوته الابدي ضمن الخلاص المشترك.
لقد أفسدنا أذهاننا وأجسادنا وتركنا عشرة القدوس وحفرنا لأنفسنا الآبار التي لا تضبط ماءًا، وتبعنا نظرياتنا الخاصة المخيفة والمتخبطة، وبددنا أوقاتنا في مخططاتنا، والنتيجة أننا فقدنا ميراثنا وخرجنا خارج بيتنا الحقيقي، وضيعنا كنوزنا فيما يبلىَ ويفسد ويصدأ ويُسرق، ونُفنيا في كورة بعيدة؛ فارغين غارقين وسط مستنقع من الجزع في بابل البائسة وسط الخُرنوب والخنازير، ولا دلو لنا وليس لنا إنسان يلقينا في البركة، نعاني من خبرات البؤوس وخطايا الإثم والأطعمة البائدة.
لكننا في هذا الصوم السيدي ننضم إلى الكنيسة الصائمة في برنامج عبادتها لنتشبه بالسيد ونتقدس ونتعقل ونكون قديسين نظير القدوس الذي دعانا في كل سيرة، ونقول له (أخطأتُ أكثر من الجميع… يا رب يسوع اغفر لي؛ لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران… آثامي علت على رأسي وثقلت؛ فلا تطرحني عنك؛ بل اجعلني كالعشار والزانية واللص.. واذكرني في ملكوتك؛ واجعلني كواحد من هؤلاء؛ لأنني أعرف أنك صالح رؤوف ورحيم؛ فاذكرني برحمتك).
في عبادة الرحلة الصيامية ندخل مناخ وجو وحالة مدرسة التوبة التي لإعداد الموعوظين؛ كي نكتشف مجددًا خلقتنا الجديدة وبنوّتنا وسر استنارتنا وبصيرتنا؛ فيتحقق عبورنا وفصحنا إلى الحياة الجديدة؛ ليكون المسيح فصحنا هو كنزنا (أحد الكنوز)، وهو غلبتنا (أحد التجربة)، وهو أبانا السماوي الذي أعد لنا وليمة أسراره (أحد الابن الراجع)، وهو ماء حياتنا (أحد السامرية)، وهو طبيبنا ورجاؤنا وحياتنا (أحد المخلع)، وهو استنارتنا وبصيرتنا وخالق رؤيتنا الجديدة (أحد التناصير)، وهو ملك خلاصنا (أحد الشعانين).
فلا زالت رحلتنا الصيامية تحتفظ حتى اليوم بطابعها التعليمي والسرائري المتدرج كمدرسة للموعوظين؛ صائرة لنا من جديد كل سنة، كشفًا جديدًا وخبرة مستعادة بما صرناه بالدخول إلى بهاء الملكوت.. والمسيح الصائم يقودنا في موكب الصوّامين؛ لننظر إليه ونقتدي به [تعالوا انظروا مخلصنا محب البشر الصالح.. صنع فعل الصوم وعلمنا المسلك كي نسلك مثله وأبطل قوة العدو وحِيَله وحُججه وافتضح المجرب أمامه] ذكصولوجية الصوم الكبير..
حقيقة إن ربحًا عظيمًا وكثيرًا كائن في الرحلة الصيامية؛ يمحو خطايا الذين تدنسوا؛ ويشهد لغلبة من تمسكوا به في النصرة على حُجج العدو المحتال، فتصير هذه الرحلة الصيامية سيوفًا وأسلحة مغبوطة لمن يمارسها؛ وبها يملأ مصباحه بزيت البهجة… فللصوم بهاء ونجاة وخلاص ورفعة تخلصنا قبل أن يسد الموت أفواهنا في أبواب الجحيم.. وللصوم كرامة لأنه مشابهٌ للسر العظيم الذي يفوق عقول البشر الذي سعى مخلصنا ليكمله.
وما أروع قداسات عبادة الصوم التي فيها نستقي اللاهوت من الكأس المقدسة في جو فريد البهاء؛ والشعور الفصحي، عندما نعيش صلاة الكنيسة الصائمة المجتمعة التي تنادي يسوع المسيح الذي صام عنها أربعين يومًا وأربعين ليلة، فتتمثل حياته أمامنا وتكون لنا اتحادًا وعشرة ووليمة روحانية حافلة بالأطعمة الروحية التي للحياة الأبدية.
فوراء كل جوع في حياتنا يكمن الله، ولأن قصة السقوط مرتكزة على الطعام والثمرة المحرّمة؛ فالصوم يعيد العالم الساقط؛ كي يستوعب في هذه الرحلة الصيامية كيف أن كنزه الحقيقي هو في العبور الدائم من هذا العالم إلى ملكوت المجد..
كذلك ويصير الطقس الصيامي كوجبات روحية نختبر فيها تحريرنا السري من التقوى المشوهة الزائفة عبر قراءة النبوات والقراءات التي تغذينا تعويضيًا وتكون أداة عبادتنا وبناءنا الذاتي: نبوات العهد القديم في زمن ما قبل المسيح؛ زمن تاريخ الخلاص والتوقع المتجه نحو تمامه في المسيح… كتاريخ الخلاص الذي يقود للمسيح ويكتمل به؛ ويعلن سر الكنيسة خلال المشاهد والوقائع الكاشفة لسر الخلاص العظيم الذي للعبد المتألم.. في رحلة عودة صومية سنوية مؤسسة على البعد الكتابي.
ولأن أول العصيان كان من آدم أبينا في الفردوس بسبب شهوة الطعام؛ صار أول الجهاد من سيدنا المسيح في البرية؛ لنصوم معه فنغلب ونتمجد بسر لا يُنطق به.. نسير معه في مسلكه ونكون مثله.. فآدم الثاني السمائي المُحيي هو موضع غلبتنا ونصرتنا على السقوط الذي كان آدم الأول النفساني هو عِلته. آدم الثاني جاع في البرية ليكفر بصومه عن الطعام المحرّم الذي أكله الأول بعصيانه.. ونحن نصوم لنعبر من البرية إلى الفردوس، ونسلك كما سلك ذاك الذي فتح لنا طريق الحياة وأنار الخلود..
إننا نصوم لكي لا ننخدع بكلام المحتال الذي يجربنا بأقوال إلهية مجتزأة من سياقها.. ولكي نوحد قلوبنا مع مسيحنا الكلمة فنظفر بطعام الرحمة؛ لأن حياتنا ليست بالخبز وحده؛ ولأن ملكوتنا ليس أكلاً وشربًا؛ لكن صومنا هو شهوتنا للفصح ولمشروع النور وقيامة المجد.. وإن كان خلاصنا هو ليس بصومنا؛ لكنه بالإيمان يثمر خلاصًا وقداسة؛ حيث يصون صومنا ويحفظ لنا نعمة الخلاص الموهوبة لنا.. وصومنا أيضا هو ليس ضد الجسد لكنه من أجله ومن أجل إخضاعه وترويضه..
وفي عبادة الصوم تنحني الكنيسة كلها في طلبة إلحاحية نخاطب بها الله ونحن منحنين ساجدين من أجل احتياجات الكون الشاملة.. وبألحان الصوم الجميلة نتعبد؛ والتي قد تبدو رتيبة وبطيئة؛ لكنها تُدخلنا كي نفهم ونعيش التحول الذي يبدأ من الأعماق، وكأننا نصل بها إلى مكان باطني لا يبلغه ضجيج وصخب الحياة وهرجها ومرجها (عالم آخر سماوي) حيث نغم اللحن الصيامي ( كيرياليسون /// الليلويا) الذي يحررنا بلحنه وكلماته لنصبح خفيفين صاعدين محلّقين، نستدعي المراحم ونختبر حركة النفس التي تسترد عمقها الضائع، متسربلين بلباس الصوم كثوب يقينا من سهام إبليس الحارقة، مقدمين أجسادنا قرابين تتجدد في الربيع الروحي؛ وكأنها بمثابة (تعشير) لأيام السنة وموسم رد كل شيء لله..