كتب د. جورج صدقه في الجمهورية بتاريخ 14 كانون الثاني 2022
من مؤشرات التخلف في مجتمعنا هو مفهوم العمل السياسي وكيفية تعاطي السياسيين بشكل عام مع المواطنين وكيفية ممارستهم خدمة الشأن العام التي انتخبوا من أجلها.
في الدول المتقدمة، تعني ممارسة السياسة أولاً إدارة موارد البلاد في خدمة الشعب وضمان حياة كريمة للمواطنين. أمّا المهام الأخرى من أمنية وإدارية وقضائية وتنظيمية فهي من أجل ضمان حسن إدارة الموارد في أجواء من العدالة والحرية والامان. هذا يعني أن دور المسؤولين هو أولاً ضمان عيش كريم للمواطن، من خلال تأمين متطلبات حياته اليومية من فرص عمل ولباس وطعام وسكن واستشفاء وغيرها من حاجات أولية تعمل الانظمة السياسية على تأمينها للشعب. وبقدر ما تتأمّن حاجات الشعب هذه يكون البلد قد حقّق ارتقاء في نظامه السياسي ومستوى الحياة فيه.
وفي مثل هذه الدول، يتنافس رجال السياسة والأحزاب بين بعضهم عمّن يقدم أفضل الخدمات للشعب، ومن يستطيع أن يضمن برامج تنموية ترفع مستوى حياة المواطن او تقدّم له ضمانات إضافية أو تتصدّى للمشاكل الاقتصادية الناشئة من بطالة وتضخّم وغيرها، وذلك من أجل تحسين حياة المواطن وضمان حاجاته. هذا هو مفهوم العمل السياسي في الدول المتقدمة.
لذلك تحتلّ المواضيع الاقتصادية الأولوية في البرامج الانتخابية للمرشحين، ويحتلّ الاقتصاد دوماً الصفحات الأولى من الصحف اليومية وفي مختلف وسائل الاعلام لأنه في صلب العمل السياسي لا بل هو هَدفيته القصوى.
وكل الأنظمة السياسية من أقصى اليسار الى اقصى اليمين تطوّرت بهذا الاتجاه، فالأحزاب الشيوعية انهارت واختفت حين عجزت عن تأمين متطلبات الحياة لشعوبها، فانهار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الدولية واتجهت الأنظمة الشيوعية نحو اقتصاد السوق بهدف تأمين خير شعوبها.
كذلك تطوّرت الأنظمة الليبرالية وتغيّرت وذهبت أكثر باتجاه الأنظمة الموجّهة ضمانا للعدالة الاجتماعية ومن أجل تأمين متطلبات الطبقات الفقيرة باعتماد سياسات ضرائبية تحقق العدالة الاجتماعية.
ومن يتابع الحملات الانتخابية في الدول الغربية سواء الرئاسية او البرلمانية يستنتج كيف ان الحملات الانتخابية تركّز على مشاريع تعزيز حياة المواطن وحلّ مشاكله الاجتماعية الاقتصادية. انهم يطوّعون السياسة في خدمة الشعب.
بالانتقال الى لبنان، نرى كم أن سياسيينا، في غالبيتهم العظمى، بعيدون كلياً عن هذه المفاهيم، وكيف أنهم يطوّعون السياسة في خدمة مصالحهم الشخصية أولا، ومصالح زبانيتهم ثانيا. عملهم يتميّز بالاستعراضات الكلامية والاجتماعية وذلك في غياب أي محاسبة أو مساءلة عن دورهم أو انتاجهم او ما قدّموه لوطنهم.
واليوم، رغم الازمة الاقتصادية القصوى التي بلغها الوطن، فإنّ تصريحات رجال السياسة عندنا ومواقفهم، بمن فيهم المسؤولون في الصف الأول، لا تؤشّر الى وجود ازمة معيشية خانقة يعانيها الشعب منذ أكثر من سنتين. إذا اطلعنا من وسائل الاعلام أو تابعنا اهتمامات هؤلاء السياسيين نستنتج بسهولة أن خطابهم بعيد كلياً عن إهتمامات الناس، يتكلمون في الحوار والانتخابات ومشاريع القوانين وفي السياسة الخارجية، وهي أمور تعنيهم وتعني أحزابهم، وهي تعبير عن أهداف ترويجية وتسويقية أو انتخابية. همّهم الأول مواقعهم ومصالحهم الذاتية، لا يهتمّون بقضايا الشعب ومعاناته في شؤون الكهرباء والمحروقات ومستوى الحياة وذلّه أمام أبواب المصارف. لا حديث عن الازمة الاقتصادية الاجتماعية المتفاقمة منذ 2019 وكأنهم غير معنيين بها. لا أحد منهم يتناول جديّاً موضوع الغلاء الفاحش وكيف يمكن لموظفي القطاع العام والعسكريين أو العمّال الذين يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية أن يعيشوا. لو كانوا يفكرون حقيقة في ذلك لما استطاعوا أن يناموا الليل أو لكانوا استقالوا من مهامهم.
وإذا تناول السياسيون أزمات الكهرباء والمحروقات والمواد الغذائية وغيرها الكثير، يكون ذلك من باب مصالح شخصية وحزبية ضيّقة لأنّ هذه الازمات هي باب للصفقات وهي التي نقلت أموال الخزينة والشعب الى جيوب هذه الطبقة، وتصريحاتهم ليست الا من باب رفع العتب.
منذ سنتين والازمة الاقتصادية تتفاقم فيما المسؤولون منصرفون الى حساباتهم الشخصية ولم يطرحوا أيّ حل للخروج من الازمة أو وقف الانحدار. هم منصرفون الى حساباتهم الانتخابية وحساباتهم المالية، مطمئنون الى أن الوضع تحت السيطرة وأن الناس اليائسة لن تحرّك ساكنا. هم مستمرّون بمناكفاتهم، باجتماعاتهم، وبتصريحاتهم على وسائل التواصل وكأن كل شيء بألف خير. في الواقع هم بألف خير، لا تنقص قصورهم لا الكهرباء ولا المحروقات ولا المواد الغذائية.
أوليس غريباً أن تكون الأزمة الإقتصادية المعيشية على تفاقم كل يوم من دون أن يكون هناك أي طرح إصلاحي أو مبادرة لوقف الإنهيار؟
كيف يعقل انه منذ أكثر من سنتين وأزمة المصارف مستمرة من دون أن تسعى أي سلطة الى اقتراح حل ما يضع حداً لإذلال الناس مقابل الحصول على بضع ليرات من جنى عمرهم ومن تعب جبينهم؟
كيف يعقل ان تصبح السلع الاستهلاكية الرئيسية من خبز ولحم وحليب عبئاً كبيراً على المواطنين من دون أن يرتفع صوت من مسؤول أو أن تطرح مبادرة ما؟
كيف يمكن أن تصبح الادوية مقطوعة من الصيدليات أو بأسعار خيالية من دون أن نسمع صوتاً لمسؤول يندّد بالأمر أو يقترح حلاً؟
كيف يمكن للدولار أن يحلّق، فيما رئيس الحكومة ووزراؤه يبقون مكتوفي الأيدي وكأنهم غير معنيين ولا يتحملون أي مسؤولية؟
كيف يمكن أن تبيع بعض الجامعات الدكاكين آلاف الشهادات بملايين الدولارات مهدّدة سمعة لبنان الاكاديمية من دون أن تتحرّك السلطات جديا لكشف الامر وكشف من يقف وراءها؟
على تعدّد مشاربها تبدو الطبقة السياسية تتوزّع الأدوار من خلال تبادل الإتهامات وتحفيز جيوشها الإلكترونية ووسائل اعلامها كي تبدو حيال جمهورها وأبناء طائفتها في وضع المتصدي للآخرين.
كل شيء يوحي أن الطبقة السياسية ليست في مستوى رجال دولة، فمنها الفاسد، ومنها الفاشل، ومنها المستفيد من الإنهيار، لكنها كلّها لا تعمل وفق مفهوم المسؤولية التي تقع على القيّمين على الشأن العام.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه