توصيفات الآباء للاهوت الكلمة في صيغات نسكية روحانية بعيدًا عن التحرر والتغريب
أطلق علماء اللاهوت المستيكي Mystical Theology على المعرفة اللاهوتية (لاهوت النفي) إذ يصعب التعبير عنها بواسطة الألفاظ ، على اعتبار أنها عالية على الأفهام ، وتمثل سعيًا روحانيًا يخوض في غمار “الحياة السلبية” ؛ لأن الإلهيات في كثير من الأحيان لا يمكن التعرف عليها إلا عن طريق السلبيات التي يعبر عنها البعض بأنها “غَمامة عدم المعرفة” A Cloud of unknowing ؛ حيث يشرق الله بنفسه ليستعلن نفسه بنفسه ؛ خلال إشراقات أمجاده السمائية ، وبفيض نوره الإلهي.
وتلك النفحات الروحانية النسكية ، التي لا يمكن تحديد مداها أو الإلمام بها إلمامًا محسوبًا ومدركًا !! وبفيض نوراني إلهي من القداسة الحقة والنعمة الفيّاضة التي لا يمكن صياغتها في ألفاظ… وهنا يجدر بنا أن نتبين الفوارق القائمة بين الجوهر والعَرَض السطحي… فجوهر الحق قائم بذاته في استمرارية ، أما العَرَض فهو ما يتصل بالسطحيات ذات البريق المفتعل ؛ وحداثتها وقابليتها للفناء والزوال.
يتصف الجوهر بالوحدانية والتماسك والبقاء ؛ على العكس من الأعراض المتشعبة والعناصر المتنافرة.. وعلى أيَّة حال ؛ فهذه كلها تتجمع في غير تنافر ؛ وتتحد في انسجام رائع في بؤرة الجوهر الإلهي ؛ والذﻱ يعبر عنه بمفهومات واصطلاحات تصف الأمور السرمدية غير المدركة ؛ لتقودنا إلى فهم ما لا تره عينٌ ولم تسمع به أذنٌ ؛ من كنوز وأسرار لم يسبق لها أن خطرت على قلب بشر ؛ لكننا نقترب منها لنتعرف على حقائقها بالسعي المستيكي والتأمل الروحي والقراءات الإنجيلية المعاشة، وغذاء النفس الخاشعة التي تصف السمائيات؛ لا عن طريق مناظرات وسَفْسَطات كلامية ، بل عن طريق ما أسماه القديس كيرلس الكبير (السعي الدائم وراء المعارف الإلهية) في صدق كامل وأمانة حقة ؛ حينئذٍ كما يقول القديس : (سيشرق شمس البر على الأبرار ؛ ونعمة الروح القدس ستشملهم جميعًا ؛ ونور الحق سينير لهم السبيل). وهذا هو شعاع المعرفة الروحية السامية السماوية غير المائتة ، التي تكشف الأسرار الثمينة ، وتتحد بالنفس الصافية بالله ؛ لتسبح لحن اللاهوت الخالد بروعة سماوية باهرة ، وبفرحة الطيب الغامر ، التي يتردد صداها على جدران القلب العطشان للمراحم وللمعرفة ؛ فيشبع العقل والقلب.
عندما تصطبغ التقوى وتتلازم بالتأمل في الأسرار الإلهية ؛ ينفتح إلهام الرؤية الروحية ، ويصير معينه لا ينضب ، بنعم الومضة والسكينه الإلهية ، وشركة الثالوث المقدمة لنا بالوسائط التي نفهمها ، وبهذه الوسائط نستطيع أن نقبل الكثير من أوجُه السر ؛ حتى ولو لم نستطع أن ندرك أو نَسْبِر عمق جوهره.
يرتكز لاهوت النفي على التشبيهات المأخوذة من العالم الحِسّي ؛ لتكشف لنا الأسرار الإلهية ، فيتسامَى المحسوس وينقلنا إلى الروحي الفائق للطبيعة ؛ الذﻱ هو الحكمة اللاهوتية الكاملة ؛ والتي هي ثمرة مواهب الروح القدس ؛ والتي بموجبها نتحد بالثالوث في صلاة القديسين ؛ عبر دفقات إلهية تقودنا لا إلى عقائد جامدة ، بل إلى قانون حياة يتحول إلى سلوك حي بالمحبة المسيحية الحقيقية.
سائلين الروح القدس أن يغمرنا بشلالات الحق الإلهي ، لنعيش الأعماق ونتذوق حلاوتها ، ونقتني كنوز هذه الحكمة السرائرية الموحَى بها ؛ والتي نصدقها بالإيمان القلبي ؛ لأن فهمها لن يكتمل بالعقل فقط ، ولن ترتهن معرفتنا بها بالعقل وحده ، بل بالإيمان نتعقلها وندركها ، فتغذﻱ أرواحنا لنفهم بالإدراك ؛ فهمًا معرفيًا يؤدﻱ إلى الشركة والاتحاد بالله ، كعلامة حية معه ، و هي نفسها الحياة الأبدية (يو ١٧ : ٣) ، التي تجعلنا نقول : لقد عرفناك وسنعرفك ؛ ونحن فيك كل حين ، ونصرخ نحوك “يا أبا الآب” (غل ٤ : ٤) ، ومكاننا في يدك ؛ ولا سلطان للعدو الشرير ؛ ولا نصيب له فينا ، نسمع صوتك ونتبعك ؛ وننال حياتك الأبدية فلا نهلك ولا يخطفنا أحد… نعرفك ونتبعك ونراك بأعين طاهرة مستحقة نعمتك ، ثابتين في كلامك بكلام الحكمة والعلم والروح الواحد ؛ لأنك تعرف الذين يعرفونك؛ والذين هم لك وصاروا واحدًا معك وأعطيتهم ذاتك ورفعتهم.
لقد عبّر الآباء عن هذه الأسرار في وصف اللاهوت بأوصاف النفي عندما وصفوا قائلين : (غير المرئي ، غير المحوﻱ … غير المبتدئ … غير الزمني … غير المفحوص … الذﻱ لا يُحدُّ … غير المتحول) ؛ فجاءت تعبيراتهم الاصطلاحية أحلى من العسل ، سامية على كل أنواع ثقافات الدنيا ، حتى لا تتحول عند البعض إلى قضايا عقلية فقط ؛ تثير الجدال والخصام ؛ لأن التعبيرات الإلهية تحتاج إلى صعود المرتفعات ؛ والتكلم عن الله مهمة عظمى ، تستلزم نقاوة واستعدادًا مستمرًا وتأملاً حتى يُستعلن الحق.
ويُعتبر القديس غريغوريوس اللاهوتي أشهر الآباء الذين نحتوا هذه التعبيرات اللاهوتية فيما يسمَى ب (لاهوت النفي) عندما وصف الصفات الإلهية عن طريق نفي أضدادها ، وهذا يرجع إلى أن لاهوت الإيجاب ؛ أﻱ وصف الصفات الإلهية بالألفاظ التي نستخدمها يجعلها مجرد تشبيهات ورموز ؛ لأن الألفاظ هي نسبية (المحب ، القادر على كل شيء ، الرحوم) ؛ وتجعلنا نفهم صفات الله ؛ كما نفهم صفات البشر ، وفي هذا قصور ، مما حدا بالقديس النزينزﻱ إلى استخدام (لاهوت النفي) للتعبير عن الأسرار غير المفحوصة التي لا يمكن استعلانها إلا بنعمة التأمل.
القمص أثناسيوس فهمي چورچ
كاهن كنيسة الشهيد مارمينا – فلمنج – الإسكندرية