يلوم بعضهم أبناء “الأقليات” لأنهم يعلون شأن هوياتهم الدينية والعرقية على سواها من الهويات الجامعة. ولكن معظم اللائمين ينطلقون في انتقادهم من مواقف مذهبية ضيقة، ومن غلبة عددية تفترض أن لها الحق في أن تفرض ما تشاء على الأقليات التي ليس لها سوى أن تخضع، طوعاً أو كرهاً، لمشيئة الغالبية.
في الواقع، لم يفلح الفكر الإسلامي في حلّ معضلة الأقليات، ذلك لأنه يقسم المجتمع إلى قسمين: المسلمون من جهة، وغير المسلمين من جهة أخرى. الفكر الإسلامي نفسه هو المسؤول عن استفحال الظاهرة الأقلوية، وعن عدم إيجاد الوسائل التي تسمح بانخراط أبناء الأقليات في المجتمع الإسلامي وتدفعهم إلى أن يكونوا أكثر التزاماً لقضايا المسلمين وتطلعاتهم.
المشكلة الأساس لدى الساعين إلى الدولة الإسلامية تكمن في عدم احترامهم للتنوّع السياسي والاجتماعي والديني، وفي عدم احترامهم لخصوصيات الجماعات التي تشكّل النسيج الوطني الجامع لكل المواطنين. الدولة الدينية غير حيادية إطلاقاً، بل تمييزية، لأنها، وفق دستورها وشريعتها، تصنّف الناس درجات، فتجعل ممن لا يجمعهم بها الدين الواحد أو المذهب الواحد مجرّد رعايا مسلوبي الإرادة والحرية.
لذلك يكون شرعياً خوف أبناء الأقليات من قيام حكم ديني، فهم لا يرغبون في رؤية الأمراء المذهبيين يحكمونهم باسم الله تحت غطاء فقهي متخلف عن العصر الحديث. فالأمة الإسلامية، قديماً، كانت تحيا في إطار دولة الخلافة الواحدة. أمّا في عصرنا الحاضر فقد نشأت على أنقاض دولة الخلافة دول عدة على أساس وطني أو قومي أو قطري. وصارت الحاجة ماسة إلى رؤية جديدة تواكب الوقائع الجديدة، رؤية تؤسّس لمواطنة حقيقية تساوي ما بين جميع أبناء الوطن الواحد.
فلا يجوز في إطار الدولة الوطنية، مع كل ما تعني هذه العبارة، أن يبقى فقه العلاقات ما بين المسلمين وغير المسلمين كما كان سائداً قبل قرون. وفي هذه المسألة تحديداً ليس الفرق بيّناً بين ما يسمّى الإسلام الوسطي، أو الإسلام المعتدل، أو سواه من أوصاف تطلق على الإسلام هنا وثمّة.
الحل المجدي الوحيد، كما يراه أبناء الأقليات الدينية مع العديد من المسلمين، يكمن في قيام الدولة التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي. ليس النظام الديكتاتوري الذي يحكم بقبضة من حديد ضماناً للأقليات ووجودها، ولا هو الذي يحميهم، فإنْ قضي عليه قضي عليهم. وليس النظام الديني الذي يحكم بحق إلهي مزعوم ضماناً لهم إذ ينتقص من مواطنتهم ويعود بهم إلى نظام الرعايا من الدرجة الثانية. النظام القائم على الحرية والمساواة هو الضمان الوحيد لهم ولمستقبل أولادهم. لا يمكن أن يكون ثمّة احترام لكرامة الإنسان من دون قيام دولة مدنية عادلة لا يكون فيها سلطان ديني يفرض نفسه وأفكاره على كل الناس. الأزمة تكمن في بعض الفكر الإسلامي الذي لم يصل بعد إلى أخذ ذوي التوجّه المدني في الاعتبار، ومنهم مسلمون وغير المسلمين جميعهم، الذين لا يرغبون في الحكم الديني.
مأزق العلاقات ما بين الجماعات الدينية، أكثريات وأقليات، يتنامى يوماً بعد يوم. لكن يحق للأقليات أن تتوق إلى أنظمة متطوّرة على صعيد احترام حقوق الإنسان. أما الدولة الاستبدادية، دينية أم غير دينية، فشرّ خبيث يجب استئصاله عاجلاً أم آجلاً.
النهار