ندّد سفير لبنان السابق في واشنطن والاختصاصي في الدراسات الإحصائية والسكانية، رياض طبارة، ببعض التقارير التي تصدرها منظمة الأمم المتحدة حول قضايا أساسية في بلدان الشرق الأوسط، الأمر الذي يسبب استنتاجات خاطئة حول هذه القضايا ويؤدي الى مواقف غربية سلبية تؤذي صورة العالم العربي في العالم عموماً، وقد تتبعها سياسات منحازة تجاه المنطقة.
وبرغم أنّ طبارة تسلّم في الماضي مناصب رفيعة في الأمم المتحدة والمؤسسات المرتبطة بها، قبل وبعد أن يصبح سفيراً، فقد اعتبر أن بعض دراسات المنظمة الدولية شوّهت مستوى تعليم المرأة في البلدان العربية ولبنان وأظهرت الرجال كما لو كانوا يتقدمون على النساء بنسب عالية في هذا المجال في الأعمار كافة بسبب التمييز ضد الإناث. ففي كتاب صدر له مؤخراً بعنوان: «لبنان: مشكلات إنمائية وإنسانية بالأرقام»، أكد طبارة أنّ مستوى التعليم أصبح شبه متساوٍ بين المرأة والرجل في فئة الشباب بلبنان وأنّ نسبة الأمية بين النساء انخفضت من 48 في المئة عام 1970 إلى 8 في المئة عام 2015، كما تهاوت الفوارق بين الجنسين في نسب التعليم في دول عربية أخرى.
وأضاف أنّ عدد الإناث في الجامعات في لبنان يفوق عدد الرجال بـ 12 في المئة، وعدد المتخرجات يفوق عدد المتخرجين بـ 14 في المئة. ومع مرور الزمن، أصبحت اختصاصات الإناث تتكاثر في بعض المهن التي كانت تُعتبر في الماضي مهناً ذكورية كالهندسة والطب وإدارة الأعمال والمصارف. واعتبر طبارة أنّ الدول العربية عموماً، ودولة لبنان بينها، تترك للمنظمات الدولية حريّة زائدة في تقرير أولويات التنمية في بعض الأحيان نتيجة لإحصاءات دولية خاطئة. كما أنّ الدول المانحة تُعطي الأولويات لأرقام دراسات هذه المنظمات الدولية عند تقديم مساعداتها، بينما تختار هذه المنظمات بعض القضايا الأقل أهمية بالنسبة للدول المعنية.
ويفتتح طبارة كتابه الذي يهديه الى زملائه الباحثين في القضايا الإنمائية والإنسانية لما يعانون في ملاحقة الرقم الصحيح غير المسيّس، قائلاً إنّ لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي لم يتواجد فيه تعداد سكاني منذ عام 1932، وذلك خوفاً من أن يسأل التعداد عن الطائفة والمذهب. بيد أنه يوضح بأنّ معظم التعدادات السكانية في العالم لا تسأل عن هذا الأمر، إذْ بالإمكان تقدير هذا العدد علمياً بطريقة غير مباشرة عن طريق المسوحات بالعيّنة (Sample Surveys)، ومن دراسات أخرى عن الخصوبة والوفيات والهجرة. ويؤكد بأنه قام بتطبيق آخر وسائل تقدير عدد السكان في لبنان استناداً إلى مسوحات ودراسات جرت مؤخراً، وتبين له أنّ العدد الفعلي للبنانيين المقيمين في لبنان هو 3.6 ملايين نسمة.
وبالنسبة لفوضى استخدام الأرقام، يشدد طبارة على خطأ تقدير مستوى البطالة استناداً الى المجموع العام للسكان (من دون استثناء الكبار والأطفال)، مؤكداً أنه من الضروري أن يتم تقدير هذه النسبة استناداً الى مجموع القوى العاملة فقط (الناشطين القادرين على العمل). وبالتالي، فإن النسبة الأصح في لبنان للبطالة هي 12 في المئة. كما يشير الى ضرورة القيام بمسوحات البطالة شهرياً، خصوصاً بعد تزايد النزوح السوري الى لبنان ودول المنطقة الأخرى. وهو يعتبر أنّ لبنان والمنطقة عموماً سيواجهان مشكلة إعالة المسنين مع ازدياد نسبهم في البلدان العربية، وبالتالي ستصبح قضية ضمان الشيخوخة قضية رئيسية وسيؤدي ذلك إلى حاجة للمزيد من الخدمات الطبية.
في الفصل الثاني من الكتاب، يتطرق طبارة الى موضوع الهجرة إلى الخارج وأسبابها وتداعياتها. فيقول إنّ هجرة الشبان اللبنانيين إلى الخارج مؤخراً بداعي الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) أدّت الى خلل في التوازن بين أعداد الجنسين في لبنان، فزادت نسبة الإناث وارتفعت نسبة العزوبية بينهن. ولكن تبعت ذلك هجرة أنثوية بعد ارتفاع نسبة تعليم الإناث وتفاقم الحاجات المادية للعائلات.
ويشير أنّ دراسة مفيدة أجرتها الجامعة اليسوعية في لبنان قدّرت حجم الهجرة السنوية من لبنان في مطلع الألفية الثانية الى ما بين 35 – 55 ألف شخص سنوياً. وأشارت هذه الدراسة أنّ السبب الرئيسي للهجرة كان السعي نحو العمل اللائق (الأجر العادل، الديمومة والحماية) وهذا الدافع شكل 80 في المئة من أسباب الهجرة في مقابل 20 في المئة للدافع الأمني. كما أشار الى أنّ نسبة مرتفعة من المهاجرين هم من الشباب الجامعيين أصحاب الكفاءات، وغالبيتهم تقول بأنها لا ترغب بالعودة الى بلدها.
ومن المفارقات الأخرى التي يمكن للإحصاءات الصحيحة أن توضحها، الفكرة القائلة أنّ معظم المهاجرين اللبنانيين المقيمين في الخارج هم من الطوائف المسيحية. يشير طبارة الى دراسات أوضحت أنّ أعلى نسبة بين اللبنانيين في الخارج استناداً الى لوائح الشطب الانتخابية في لبنان هي بين السنّة المسلمين (48 في المئة) تتبعها نسبة الشيعة المسلمين (45 في المئة) ثم الموارنة المسيحيين (39 في المئة). بالتالي، فإن اقتراع المغتربين اللبنانيين سيكون (مبدئياً) في مصلحة خيارات المذاهب الإسلامية. ويذكر الكاتب أنّ مجموع اللبنانيين من الطوائف كافة خارج لبنان قد يصل إلى مليون نسمة. لكن هذا الأمر يتوقف على طريقة تعريف اللبناني في الخارج (الجيل الأول أو الثاني أو الثالث، أو إذا كان مسجّلاً وما زال يملك أوراقه الثبوتية أو لا، وفي أي بلدان يسكن، ولأي مدة).
ويؤكد طبارة أنّ معدل حجم الأسرة في لبنان انخفض من 5.4 أفراد (سنة 1970) إلى 4.1 في العام 2009، وما زال على تراجع. كما أنّ معدل سن الزواج ارتفع بين الرجال من 29 سنة العام 1970، الى 32 سنة العام 2007. ومعدل زواج النساء ارتفع من 23 إلى 28 سنة في الفترتين نفسيهما. وقد تأثرت الأسرة، منذ الحرب الأهلية اللبنانية (سنتي 75 ـ 90) بالازدياد المتسارع للطلاق خصوصاً بعد العام 2004. ونسبة المطلّقات تبلغ حوالي مرتين نسبة المطلّقين، إذ أنّ الرجل المطلّق يعاود الزواج بنسبة أكبر من المرأة المطلّقة.
ويذكر طبارة أنّ الدراسات المموّلة دولياً تركّز على المواضيع التي تهم الدول الأوروبية والأجنبية. فمع عدم وجود ما يزيد عن 85 ـ 110 إصابات بـ»الإيدز» (فقدان المناعة) سنوياً في لبنان، رُصدت مبالغ كبيرة للدراسات حول هذا المرض. فيما لم يُركّز بما فيه الكفاية على أحد الأسباب الرئيسية للوفاة في لبنان وهي حوادث السير، التي ارتفعت من 478 إصابة قاتلة عام 2008 الى 657 وفاة في عام 2014، لتصبح ثالث أهم سبب للوفاة في لبنان بعد أمراض القلب والسكتة الدماغية (الفالج). والسبب كثرة المركبات على الطرقات وعدم التقيد بقوانين السير وعدم صيانة الطرق والتطوير في تجهيزاتها وعدم مراقبة السرعة بفعالية.
ويختتم طبارة كتابه قائلاً إنّ على الدول العربية، ولبنان خصوصاً، الاهتمام ليس فقط بالمشاكل القائمة حالياً تنموياً واقتصادياً بل المشاكل الآتية في المستقبل، وبالتالي عليها التركيز في دراساتها التنموية على القضايا الأساسية في هذا المجال وليس فقط القضايا التي تهمّ المنظمات الدولية والدول المانحة.
ولعل هذا الوضع كان أفضل عندما كان للبنان وزارة للتصميم أشرفت على دعم جهود الاختصاصيين المحليين والدوليين لمعالجة القضايا الملحّة في المنطقة عموماً، وفي لبنان خصوصاً خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
(]) رياض طبارة، «لبنان: مشكلات إنمائية وإنسانية بالأرقام»، 149 صفحة، شركة الشرق الأوسط لتوزيع المطبوعات (MM0)، آب 2016، لبنان.
سمير ناصيف
السفير