ودع لبنان الرسمي والشعبي الرئيسة الفخرية للجنة مهرجانات بعلبك مي عريضة في مأتم مهيب اقيم اليوم في كنيسة القديس نيقولاوس في الاشرفية، في حضور وزير الثقافة الدكتور غطاس الخوري ممثلا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، النائب عاطف مجدلاني ممثلا رئيس مجلس النواب نبيه بري، وحشد من الفاعليات السياسية والثقافية والاجتماعية والعائلة.
ومنح الخوري الراحلة باسم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وسام الارز الوطني من رتبة ضابط أكبر “تقديرا لها في سبيل إعلاء مجد لبنان ومساحة الفن فيه”.
والقى الوزير الخوري كلمة جاء فيها: “إنه رحيل أشبه باستعادة تاريخ، ومجد، وإضاءات حضارية.
مي عريضة ليست مجرد إسم مقرون بنجاحات، وسيرة مشرقة، إنها المرأة التي ساهمت في صنع صورة وطن.
من بعلبك، أشهر انجازاتها، أفسحت للإبداع مسرحا من حجارة التاريخ. تراقصت أصوات الفنانين والراقصين والحالمين، فبات المهرجان الأشهر عراقة في لبنان والعالم العربي، نقطة ضوء كثيفة تختصر الكثير من الحكايات عن وطن الحضارة، والإلهام والريادة.
كأني بمي عريضة لم تعش إلا لتبلغ اليوم الذي تنخرط فيه في ورشة إطلاق مهرجانات بعلبك إلى جانب عقيلة الرئيس كميل شمعون حيث تخرج الليالي من سياق الزمن، وتأخذنا في رحلة على صهوة صوت سماوي، أو أداء إنساني، أو تعبير فني بلغ منتهى الابداع.
يكفيها فخرا رئيسة للمهرجانات على امتداد أكثر من 40 عاما، أنها قفزت بأعمدة بعلبك فوق حرائق الحرب، وأعادت إلى الهيكل أصداء العروض الفنية الراقية، علامة على النهوض من قلب الركام إلى الحياة من جديد.
مي عريضة، لسنا هنا لنرثيك، بل لنسترجع معك ظلال الحكايا التي ولدت في بعلبك، وستروى مرة بعد مرة مع من نقلت اليهم شعلة شغفك، وها هم يعدوننا هذا الصيف بمزيد من مواعيد الفرح والرقي، وإن كان المكان سيفتقدك.
أقف الى جانب عائلتك، والأصدقاء، ممثلا فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي منحك وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط أكبر، تقديرا لبصماتك في سبيل إعلاء مجد لبنان ومساحة الفن فيه، وكلفني فشرفني أن أضعه على نعشك في يوم وداعك، وأن أنقل تعازيه الحارة إلى عائلتك، سائلا لك الرحمة، والعزاء لمن تركت في نفسه بصمات حياتك الملهمة.
عوده
وألقى متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده كلمة قال فيها: “في أيام الفقر والمحل والجفاف، شجرة ذات أغصان وارفة تثمر ثقافة وفنا وإبداعا ذوت برحيل مي عريضة، الوجه المتألق منذ عشرينات القرن الماضي، والشخصية التي طبعت عصرها وتركت بصماتها على تاريخ لبنان الثقافي.
كانت مي عريضة امرأة رائدة في عالم الثقافة والفن ووجها مشرقا من لبنان الزمن الجميل، لبنان الحضارة والثقافة والإبداع. كانت لها اليد الطولى في بلورة صورة لبنان الثقافية حتى أنها أصبحت بمثابة سفيرة لهذا البلد الصغير الذي كان بفضلها وفضل أمثالها مقصدا للعباقرة”.
وأضاف: “عاصرت كميل وزلفا شمعون، ولما أصبح كميل شمعون رئيسا، أراد أن يحقق حلما راوده بإنشاء مهرجان سنوي يستضيف كبار نجوم العالم في أرجاء قلعة بعلبك، فكانت مهرجانات بعلبك عام 1956 التي رعت لجنتها السيدة زلفا وعهدت إلى مي عريضة مسؤولية العروض الأجنبية فيها.
مذذاك، التصق اسم مي عريضة بمهرجانات بعلبك الدولية. وقد تسلمت مهمات رئاسة اللجنة منذ عام 1973، مدى نصف قرن قضته في الجهد والعمل الدؤوب من أجل جعل هذا المهرجان السنوي موعدا ينتظره لبنان ومحيطه، إنما أيضا أبرز الفنانين العالميين الذين كانوا يعتزون بمشاركتهم في مهرجانات بعلبك ويتباهون بتقديمهم عروضا على مسارح بعلبك.
رفعت مي عريضة مهرجانات بعلبك إلى المرتبة العالمية وعملت جاهدة، مع غيرها من السيدات، من أجل جعلها قبلة أنظار فناني الشرق والغرب. هكذا، توالت، بين معبدي جوبيتير وباخوس، مسرحيات جان كوكتو وأعمال شكسبير ومسرحيات الرحابنة يصدح فيها صوتا فيروز وصباح، وإبداعات لويس آراغون وبلاسيدو دومينغو وفرانك سيناترا وموريس بيجار ومارغو فونتين وهربرت فون كاريان وإيغور موييسييف وروستروبوفيتش ونورييف وغيرهم من عباقرة ذاك الزمان. وصدح بين أعمدة بعلبك صوت أم كلثوم الخالدة وعرضت مسرحيات روميو لحود”.
وتابع: “هذه السيدة التي رافقت الفن والفنانين، كانت مرهفة الحس، عاشقة للجمال، عاملة على إبراز صورة لبنان الجميلة التي تبقى فوق البشاعات والتناقضات التي نعيشها اليوم”.
وقال: “لمسات مي عريضة كانت واضحة في كل صفحة من صفحات مهرجانات بعلبك، وعملها الدؤوب أوصل المهرجانات إلى ما وصلت إليه. لكن تفانيها في العمل وتطلعاتها الثقافية والإنمائية اصطدمت بشراسة الحرب وبشاعتها، ما ترك في قلبها غصة وفي نفسها مرارة. وبعد مرور هذه الغيمة السوداء الثقيلة، عادت تعمل مع مجموعة من السيدات على إعادة إحياء هذه المهرجانات التي تعثرت لسنوات، وجعلت من إعادة إطلاقها قضيتها، وتوسلت صداقتها مع روستروبوفيتش عام 1997 لتجعله يغير مواعيده ويضع على برنامجه عرضا لمهرجانات بعلبك المستعادة”.
وأضاف: “حياة مي عريضة مسيرة نجاح وتميز لإمرأة فتنت بطلتها وثقافتها، وغلبت الصعاب بإرادتها الصلبة، وانتصرت على مرارات الحياة بالخدمة والعطاء.
رغم ثقل السنين، بقيت مي عريضة حريصة على متابعة مهرجانات بعلبك وحورها، لأن ربيب الجمال لا يرضى مفارقته، وكل فن جميل، فما بالك بالموسيقى الراقية والمسرح الذي لا يهوى الإبتذال؟”.
وختم: “معبدا جوبيتر وباخوس سيفتقدان صلابتها وتفانيها، وأعمدة بعلبك ستشتاق إلى طلتها البهية وستبكي حجارتها امرأة سبقت زمانها وساهمت مع من ساهموا في صنع مجد لبنان.
صلاتنا أن يتقبلها الرب الإله في ملكوته ويغمرها بمحبته ورحمته ويعزي قلوب عائلتها ومحبيها واللبنانيين جميعا”.
وطنية