ربما اعتاد مسيحيّو هذا الشرق أن يقطنوا الوجع وجنباتِه. اعتادوا أن يدوّروا زواياه بما يتلاءم مع مسوّغات بقائهم رغم النزف وموجات الهجرة التي لا تُعفي أبناء طائفة بعدما غدا الكفر مزدوجًا من الحركات المتشددة ومن الجوع على السواء. بغصّة تواكب الكنيسة المشرقية آلام أبنائها في زمن الآلام “الغربي” الآيل هو و”الشرقي” الى وحدةٍ منشودة. لأن الكنيسة أمٌّ، ولأن الأمّ يضنيها أن ترى أولادها يرحلون مع قليلٍ من الثياب والأموال وكثير من الذكريات المؤلمة والحرقات، يتحرّك رؤساؤها ومطارنتُها وآباؤها ورُعاتُها بما مُنحوا من قوّة إيمان وإمكانياتٍ مادية ليحثّوا على الصمود في بلادٍ، الآمن منها يعيشُ شغورًا مزمنًا، والمهتزّ منها يلملم شتات أبنائه الراحلين في محادثاتٍ علّها تعيد الأمان الى ربوعه.
ليس بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام بعيدًا من هذه المشهدية المسيحية المقلقة، وهو الذي لا تنفك حنجرتُه تحارب الظلم والتكفير وتدعو الى الصمود، ولا تنبري قدماه تعودان أبناء البيعة في سورية ولبنان. اليوم لدى لحام الكثير ليقوله وهو الشاهد على اضطهادٍ من نوعٍ جديد ومحاولات تفريغ صامتة أقرب الى مرض خبيث يتسلل الى الجسد المسيحي المشرقي ويسرق منه روح المقاومة. ومع ذلك، يؤمن لحام بأن المناعة ما زالت موجودة، وبأن الإيمان والرجاء اللذين يُبقيان مسيحيًا واحدًا في هذا الشرق كافيان لعودة الملايين… كافيان للقيامة.
قرب الكنيسة من الشعب
في مقاربته لمساعي توحيد فصحَي التقويمين، يؤكد البطريرك لحام في مقابلةٍ خاصّة لـ”صدى البلد” أن “الله بنفسه لاقى البشر، لذا ليس غريبًا أن يدعونا كي نتلاقى، والمسيح تجسّد للقاء الله مع الإنسان، ونحن كمسيحيين ومؤمنين مدعوّون الى التلاقي مع بعضنا البعض. إن لقاء البابا فرنسيس والبطريرك كيريل تاريخي ويكتسب أهمية قصوى على مستوى توحيد العيدين. من دون أن نغفل أن البابا والبطريرك تناولا قضايا تهمّ جميع الناس على مستوى البيئة والسلام والحضارات والظلم والفقر وسواها… لم يعالجا قضايا إيمانية مباشرة لأن ذلك يتطلّب درسًا أكبر وموسّعًا على مستوى العالم برمّته. أرادا أن يؤكدا أن الكنيسة تهتمّ بالناس كما قال المجمع الفاتيكاني الثاني إن آلام وآمال الكنيسة هي آلام وآمال أبناء الكنيسة، والبابا فرنسيس عهدناه يشدد على قرب الكنيسة من الشعب”.
عاجزون أمام الهجرة
اليوم، الى أيّ مدى تلامس الكنيسة المشرقية أوجاع أبنائها في هذه المنطقة النازفة؟ يجيب لحام: “الكنيسة اليوم تتحدّى هذه المآسي التي تعيشها المنطقة انطلاقًا من لبنان ولو أنه لا يعيش حربًا مباشرة بل صراعات ولاتوافقًا، مرورًا بسورية التي تتألم أكثر من سواها وتسير درب الصليب، ومثلها العراق واليمن ومصر. هذه الظروف كلّها نداءاتٌ للكنيسة لتقف الى جانب الناس، وأنا أفخر بأن كنيسة المشرق عمومًا وفي كلّ مكان تقف الى جانب الناس. وفي سورية بالذات، كلّ بطريرك وكلّ مطران وكلّ كاهن وكل راهبة وكلّ من يلبس هذا الثوب تحوّل الى جمعيّة خيرية يعمل ما أمكنه أن يعمل لتخفيف آلام الناس ومدّهم بما يحتاجونه في هذه الظروف الصعبة، فضلاً عن المؤسسات الخيرية العالمية التي تستجيب لنداءاتنا. بيد أن كلّ ذلك يبقى غير كافٍ إذ إن المهمّ وقف هذه المآسي التي هي العلّة والسبب. الحري بنا أن نصنع سلامًا على أن نستقدم سلاحًا من الخارج. في الحقيقة، نحن عاجزون أمام الهجرة الزاحفة الظلامية المأسوية التي تضرب شبابنا في سورية والعراق، وهذا هو التحدّي الأكبر للكنيسة”.
أيادٍ ضالعة
هل بات الخلاص الإلهي قريبًا في سورية؟ يتلقف لحام: “لمجرّد أن هناك توقفًا للعمليات العدائية ففي ذلك مؤشر إيجابي. كنتُ في الشام منذ أيام وبالفعل شهدنا هدوءًا لم نعِشه منذ سنوات، ولكننا نأمل أن يمهّد هذا الهدوء الى نجاح المحادثات في جنيف خصوصًا أن هناك بشائر إيجابية من قبل الجهات المعارضة بالموافقة على المشاركة. نحن في سورية، ندعو دائمًا الكنيسة الى أن تكون أيادي ضالعة لأجل أن يكون الخلاص من الله، وكلّ الكنائس تعمل على هذا الأساس وسنرسّخ هذه الدعوة في 17 آذار الجاري في اجتماع مجلس الكنائس الكاثوليكية في سورية وأنا رئيس المجلس في طرطوس، وسيكون لنا نداءٌ لأبنائنا السوريين ليرفعوا الدعاء وليصمدوا وليقدّموا ترشيحاتهم في انتخابات مجلس الشعب للدور التشريعي الثاني كدليل على التزام الحياة الاجتماعية والسياسية حتى يكونوا نواة المجتمع لا على هامشه”.
لبنان مقيّد
في الشقّ اللبناني، رحبتم بالتقارب بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية، الى أيّ مدى تعوّلون على مثل هذا التلاقي بعد تاريخ أسود؟ يجيب لحام: “لم يعد خافيًا على أحد أن لبنان في الملف الرئاسي مقيّد بالسياسات الإقليمية والعالمية، لذا فإن الخلاص للبنان وانتخاب رئيس للجمهورية يستلزمان تضامنًا داخليًا بين جميع الأفرقاء اللبنانيين، ونحن نفرح بطاولة الحوار ونأمل بها خيرًا. كما نعوّل على أن يلتقي الزعماء المسيحيون وأن يقرروا بأن يكون أحدهم رئيسًا للجمهورية، لأن القادة المسيحيين مسؤولون قبل سواهم عن التوافق ومتى توفّر هذا التوافق المسيحي يُنتج رئيسًا يمثّل كلّ لبنان وبنوع خاص الحضور المسيحي في لبنان والمنطقة نظرًا الى كونه الرئيس الوحيد المسيحي في المنطقة العربية”.
إذا طال الزمان…
هل هناك خشية كنسية اليوم من أن يُسلب المسيحيون هذا المنصب الوحيد المتبقّي لهم في الشرق الأوسط؟ يعلق لحام: “إذا طال الزمان قد نعتاد على ألا يكون لنا رئيس جمهورية سواء كان مسيحيًا أم غير مسيحي، لذا يكمن التحدّي اليوم للزعماء المسيحيين في أن يحاولوا التوفيق بين مصالحهم وبين سياسة لبنان فيصنعوها هم عوضَ أن تُصنَع لهم، من خلال السياسة المنفتحة المتواصلة مع جميع الأطراف والأحزاب في لبنان علهم يُفلحون في إيصال الإنسان المناسب الى السلطة الأولى”.
البلد