يتحاشى أهل الحوار المسيحيّ الإسلاميّ كلّ ما له صلة بالشأن اللاهوتيّ. هم يعتقدون أنّ الحوار اللاهوتيّ لن يؤدّي إلى نتيجة، بل سيؤدّي إلى التنافر والخلاف. فيكتفي أهل الحوار الدينيّ بالبحث في قضايا العيش المشترك والمواطنة والأخلاق العامّة. هي مواضيع هامّة، ولا سيّما في بلادنا حيث يتفوّق الانتماء الدينيّ والطائفيّ على الانتماء الوطنيّ. لذلك يستولي أهل الحوار الدينيّ على المسائل التي ينبغي على المجتمع المدنيّ علاجها، غير عابئين بصميم المواضيع التي ينبغي أن يتناولوها في العمق.
بيد أنّ أيّ حوار مسيحيّ إسلاميّ، وإن كان ينأى بنفسه عن الحوار العقائديّ، لا بدّ من أن يبنى على قواعد لاهوتيّة أو كلاميّة راسخة. فالنظرة إلى الدولة، وحرّيّة الإنسان ودوره في المجتمع، وقبول التنوّع والاختلاف الدينيّ والمذهبيّ، والاحترام المتبادل، وسواها من الموضوعات التي تهمّ الإنسان المعاصر، لا يمكن أن تكون مثمرة، في مجتمعاتنا التي يؤدّي الدين فيها دورًا أساسيًّا، ما لم تتأسّس فكريًّا وتتأصّل دينيًّا. أمّا سوى ذلك فليس سوى كلام عامّ يكتفي باللقاءات والبيانات التي لا جدوى منها.
كانت بدايات الحوار المسيحيّ الإسلاميّ أكثر اهتمامًا بالموضوع اللاهوتيّ، وبخاصّة ما يتعلّق بالاعتراف بأنّ المسيحيّين والمسلمين إنّما يعبدون الإله نفسه، خالق السموات والأرض. فعلى الصعيد المسيحيّ العامّ أقرّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني بأنّ المسلمين “يعبدون معنا الله الواحد، الرحمن الرحيم، الذي يدين الناس في اليوم الآخر” (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 1964). أمّا على الصعيد المحلّيّ فقد أصدر المشاركون في الحوار الإسلاميّ المسيحيّ الذي دعت إليه “الندوة اللبنانيّة” (1965) بيانًا مشتركًا أكّدوا فيه “تلاقي الديانتين في إيمانهما بالله الواحد”.
بعد هذه الفترة وبدء الحرب في لبنان، بدأ الحوار المسيحيّ الإسلاميّ يتقهقر على الصعيد العقائديّ، إذ بات خارج إطار الاهتمامات المباشرة للعاملين عليه. فما اعتُبر فتحًا منذ خمسين عامًا، وبدايةً واعدةً للقاء مسيحيّ إسلاميّ ثابت وراسخ على أسس عقائديّة وفكريّة دينيّة، لم يتمّ استثماره عبر نشره في أوساط العامّة، ولا حتّى في أوساط الإكليريكيّين وشيوخ المسلمين. فالمتزمّتون عقائديًّا هم اليوم الأغلبيّة الساحقة في كلا الديانتين، وهذا بحدّ ذاته يعدّ أكبر انتكاسة شهدها الحوار المسيحيّ الإسلاميّ منذ انطلاقه.
طبعًا نحن لا نتّخذ معيارًا لنجاح الحوار العقائديّ أو لفشله التوصّل إلى صياغات مشتركة في مسائل عقائديّة. فالحوار العقائديّ ينبغي ألاّ ينزلق إلى التوفيق أو إلى التلفيق بين عقائد مختلفة وقناعات متناقضة، ففي هذا نفاق كبير. غير أنّ الحوار يسهم في إزالة الالتباسات والأحكام المسبقة المبنيّة على سوء فهم لمعتقدات الآخر، ذلك أنّها لا تهتمّ بمعرفة الآخر كما هو يقدّم نفسه. من هنا نستعير مقولة المطران جورج خضر “الحوار العقائديّ هو للإيضاح والاستيضاح”، فالمعرفة الحقيقيّة تبدأ بالإصغاء المتبادل والنقاش العلميّ الهادئ توسّلاً للوصول إلى جلاء عناصر الاتّفاق ومواضع الاختلاف.
يحدّد الأب عادل تيودور خوري العوائق الأساسيّة التي تمنع تقدّم الحوار المسيحيّ الإسلاميّ على المستوى العقائديّ، ومنها: المعرفة غير الكافية لمعتقد الآخر، الفوارق الثقافيّة، العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة، الفهم الخاطئ لبعض المفاهيم والمقولات، الاكتفاء بالذات وعدم الانفتاح، عدم الاقتناع بقيمة الحوار… ويصل خوري إلى التمييز بين الحقيقة التي تكون مطلقة حين تتعلّق بالله، وبين الحقيقة التي تصبح نسبيّة حين تتعلّق بالفهم الإنسانيّ لهذه الحقيقة المطلقة. فيقول: “إنّ الله متعالٍ. والله هو الحقيقة المطلقة (…) وهذه الحقيقة في الإنسان ليست بمطلقة، ولكنّها نسبيّة دائمًا، أي أنّها لا تزال ناقصة، بحاجة إلى الزيادة والاكتمال. هي ليست بمطلقة، ولو كان محتواها يتعلّق بالله وحقيقته المطلقة. فالله، وإن أوحى بحقيقته، يظلّ متعاليًا، أي فوق قدرة الإنسان على الاستيعاب، وفوق المفاهيم البشريّة وكلام البشر” (مدخل إلى علوم الأديان، المكتبة البولسيّة، ص 68).
لا يسع أيّ ديانة أن تمتلك الحقيقة أو أن تحصر الله بها. الله يمتلكنا جميعنا بالإيمان الذي نعتنقه. الله يبقى حرًّا من كلّ تعبير بشريّ عنه. الله أكبر من أيّ تحديد لاهوتيّ. هذا يعني أن نتواضع أمام سرّ الله وأن نقبل من منطلق إيمانيّ محض أنّ الله إله جميع الناس، بمَن فيهم الملحدون وغير المتديّنين. فنبني مجتمعنا على هذا الأساس مقتنعين أنّ احترام الإنسان وكرامته وحرّيّته أهمّ بما لا يقاس من البحث عن هويّته والتعامل معه انطلاقًا من هذه الهوية، لا انطلاقًا من كوننا جميعًا نتساوى في الإنسانيّة.
الأب جورج مسّوح