في العماد ، نُصّب يسوع ملكا ونبيّا . في القسم الأوّل من إنجيل مرقس ستنتظمُ كلّ الروايات في مجموعتين ، وعلى محورين ، كي توضح لنا أنّ يسوع يعمل في الواقع بصفته ملكا وبصفته نبيّا ، وهذا الترتيب في الروايات يتجلّى للحال في سياق الإنجيل : سوف نراه يتصرّف كملك لدى مجابته الشيطان الذي كان يُعتقد أنه متسلّط على العالم ، والذي كان عليه أن يخلعه عن عرشه كي يملك عوضه ، ومن ثمّ سنراه يتصرّف كنبيّ عبر اختياره تلاميذه الأوّلين ، كما كان النبيّ ايليّا قد فعل من قبل .
سنجيب فقط على الشقّ الأوّل : كون المسيح هو ملكٌ .
هوّذا يسوع ” يدفع به إلى البريّة من قبل الروح ” . سوف يمكث فيها طيلة أربعين يومًا ” يجرّبه الشيطان ” ، ويضيف مرقس الإنجيليّ : ” وكان مع الوحوش ، وكانت الملائكة تخدمه ” (لعلّ هذا يحيلنا إلى آدم ! ) .
– الشيطان .. كي نفهمَ المعنى الذي أضفاه الإنجيليّ على مشهد التجربة ، يتوجّب علينا أن نوضّح ماذا كانت تمثّل هذه الشخصيّة المعتمة في نظر مرقس وقرّائه . ” الشيطان ” وبالفرنسيّة (Satan) لفظة تؤدّي الأصل اليونانيّ (Satanas) ، والتي بدورها تترجم لفظة عبريّة تعني ” العدو ” . وغالبًا ما عكست الترجمة السبعينيّة هذه اللفظة بــ ” إبليس ” (diabolos) والتي منها اشتقّت لفظة (diable) الفرنسيّة . في التقاليد اليهودية العريقة ، لم يكن ينظر إلى الشيطان بصفة كائن شرير في الأساس . فلقد كان جزءًا من الحاشية الإلهية على غرار الحاشيات الملوكيّة الأرضيّة ، حيث كانت له مهمّة محددة . إنه ، بحسب زك 3 : 1 يلعب دور المتّهم العام في محكمة الله . وبحسب أي 1 : 6 : 12 يبدو بالأولى مدافعًا عن مصالح الله – وفي اعتقاده أن الله هو في وهم تجاه أمانة أيّوب .
لذلك ، إذا ذهب ، بسماح ٍ من الله ، ليضرب أيّوب في أملاكه ، فلأنه يريد أن يمتحن هذه الأمانة . أما في 1 أخ 21 : 1 ، فقد أصبح شريرًا بكل معنى الكلمة : فهو الذي حمل داود على إجراء إحصاء شعب اسرائيل كله – وتلك خطوة مضادةى للإرادة الإلهيّة . وهكذا أصبح ” المجرّب ” ذاك الذي يدفع بالبشريّة إلى صنع الشرّ ( رؤ 12 : 9 ) .
تبنّوا أسّينيوا قمران ، وقد تأثروا بلا شكّ ببعض الديانات الشرقيّة ، مفهومًا ثنائيّا للعالم . إزاء عالم النور والحقّ الخاضع كليّا للشريعة الإلهيّة ، هناك في نظرهم عالم الظلمات والكذب . وعلى رأس هذين العالمين رئيسان أطلقوا عليهما اسم ” أمير النور ” ، و ” أمير الظلمات ” ، وهكذا سعوا بالتالي إلى ترجمة فكرة طالما انتشرت في الدين اليهوديّ آنذاك .
كان من السهل التحقق من أنّ العالم الذين كان يعيش فيه اليهود هو عالم لن تكن الشريعة الإلهيّى فيه سائدة ، بل كان الشرّ مسيطرًا عليه . لذا ، كان التيّار الرؤيويّ اليهوديّ يتطلّع إلى مجيء عالم مثاليّ ، خاضع تماما للشريعة ، حيث لا مكان فيه أبدا للشرّ . ومن هنا جاء التمييز المألوف بين ” هذا العالم ” و ” العالم الآتي ” . هكذا كان يُنسَب كلّ الشرّ الذي يعاني منه ” هذا العالم ” إلى التأثير الخطير الذي كان يمارسه الشيطان وأعوانه . والأمراض ذاتها كانت تعتبر نتيجة للسيطرة الشيطانيّة على الإنسان ، وكان الشفاء من هذه الأمراض يتمّ وكأنه رتبة إخراج الشيطان.
أن يكون الشيطان مسيطرًا على العالم ، وأنه هو الذي يجعلُ الشرّ مسيطرًا عليه ، فتلك فكرة كانت شائعة لدى اليهود . وهكذا نفهمُ كيف أنّ التقليد الإنجيليّ كشف بأنّ يسوع ، كي يقيمَ ملكه الخاصّ على العالم ، كان عليه أوّلا أن ينتصر على الشيطان ويخلعه عن العرش . فملك المسيح لا يقوم إلاّ على انقاض مملكة الشيطان . وبهذا المعنى ، وهذا القصد ، وضع مرقس رواية التجربة مباشرة بعد رواية العماد ، فيسوع الذي نصّب ملكــًا للملكوت الجديد ، نراه للحال يذهب إلى البريّة كي يواجه فيها الشيطان . لقد تلقّى الروح منذ قليل ، وها هو الروح ذاته يدفعه إلى البريّة ، وسيمنحه القوّى للتغلّب على قوى الشرّ .
بقلم عدي توما / زينيت