صحافة وصحيفة وقرطاس ووثيقة مكتوبة، لا يمكن الاستغناء عنها نهائياً، مهما أنتجت التكنولوجيا.
الصحافة ليست خبراً وحبراً وورقاً فقط، أو مطبعة وعمّالا، إدارة وموظفين ومباني، متعلمين واختصاصيين، قرّاءً وكتاباً ونقّاداً ومثقفين، مبدعين ومتلقين، مجتمعات وقطاعات، ناشرين وموزعين وباعة … إنّها جميعهم، وغيرهم، إنها عالم قائم، في مقاييس حضارة الشعوب وتقدّم الدول.
أقفلت “السفير” امام محنتها، على كل ما فيها ومن فيها، أمجادها وماضيها، عراقتها وتاريخها، تقدماتها ومساهماتها، إصاباتها والإخفاقات.
شرّدت نخباً، لا حيلة لها إلا القلم، ومن خلفها أسراً، باتوا عراة في مواجهة مصيرٍ أقلّه مؤلم وموجع. يتّمت قرّاءً وعشّاق ثقافة ومعرفة، وأصحاب اهتمامٍ وأهل شأن، وبتوقفها ما يشي بالأفول والرحيل للصحافة المكتوبة.
وها هي “النّهار” ليست بأفضل حال، من التّخلّي والتسريح القسري لغوالي أسرتها، الذين بمعظمهم قرعوا ناقوس الخطر، وهذا ليس بسرٍّ أو يسرّ، لكنّها ما زالت مستمرّة، إنّما بشِقّ الأنفس والمنازعة، ومصيرها يبدو كزميلتها “السفير”، وصدى البلد آخذة بالإخلال بالتزاماتها وتوقيف خطوط التوزيع عن مشتركيها. إنها حقاً قضية وطنية بامتياز، كيف لا وعملاقتا الصحافة اللبنانية إلى الأفول والتوقف، وآهٍ ما أوحش الرحيل وما أحزن أثره وآثاره، في زمنٍ يستجدّ فيه كل يوم من المفاجآت ما يشبه المعجزات رغم استحالتها.
ترى، لمن يُترك الرأي العام، ولمن تترك مهمة أخبار البلاد وأحوالها، بسياستها واقتصادها، وثقافتها وأمنها وتوجيهها؟ أوَيعقل أن تترك لما يسمى وسائل التواصل الاجتماعي، وهل روّاد هذه الوسائل من النخب في علمها واختصاصاتها وانضباطها الأخلاقي والأدبي والمراقبة الذاتية، كما عُهدت الصحافة؟! أم أنّ الهشاشة والولدنة هي الغالبة، إذ بمقدور أيّ شخص اقتناء الجهاز، واستخدامه، والمراسلة من خلاله وعلى مزاجه، حيث لم يقتصر الأمر على السفسطائية، ودفتر النسوان الشامي، والإباحيّة، بل يطالعنا الواقع اليومي المرير، بالمزيد من الفضائح والسطحيّة وافتعال المشاكل، فاضحاً المستوى المتدنّي في المقياس الأفقي للمجتمع، اللهمّ إلا القليل القليل النافع، الذي استطعنا إحرازه من تلك الوسائل الفظيعة الروعة.
إن العجز الذي حلّ بالصحافة المكتوبة، وأوصلها إلى هذه النتيجة الكارثيّة، هو سهل الحلّ والمنال، إذا ما حظي بمخلصين من أهل الزمان يحسنون الإصغاء، وأنّ دعمها لا يشكل في عجز خزينة الدولة اللبنانية شيئاً يذكر، ولا حتى واحد من الألف، إذ بمقدور الدولة أن تدعم الصحافة المكتوبة وتخرجها من أزمتها مثلاً، من خلال قيمة فوائد يومٍ واحد ممّا تدفعه خزينتها لما يسمّى “تجميلاً” خدمة الدَّين، وما أدراك ما خدمة الدَّين، ذلك الذي تسقط أمام أرقامه كلّ أرقام الكسب الذي يتوهمه أوصياء الأمور من أهل السلطة، إذ حدّدها الوزير المختصّ بـ 4,6 مليارات دولار سنوياً، ما يساوي 13 مليون دولار عند كل إشراقة شمس، تلك المبالغ التي يكتوي الشعب بنار الجلد الضرائبي وغلاء المعيشة لتأمينها، ولم يسلم منها المواليد الحُدَّث.
إننا نهيب بكل من يعنيهم الأمر، خصوصاً أصحاب الصحف والقيّمين عليها والمهتمّين، إلى التنادي وعقد اللقاءات بأسرع وقتٍ ممكن، للاتفاق على خطة عمل، يخرجون بها إلى المعنيين في الدولة، خصوصاً فخامة رئيس الجمهورية، حامل لواء الإصلاح والتغيير، وكذلك التوجّه المباشر إلى معالي الوزير المختصّ الّذي نثق بنضج شخصيته وعمق رؤياه.
إنّ قطاع الصحافة الورقية المكتوبة في لبنان، هو من الأهمية بمكان، كونه يهمّ نخبة المجتمع، ويعني رعيلاً معاصراً لا يستهان بنسبته العددية والمعنوية، بل يؤلمه ويتعذّر عليه، هضم خسارة جريدته اليومية، ويصعب عليه ترك الأذيّة تلحق بعالمها وأسرها وعائلاتهم كما أشرنا اعلاه والذي يعتبر بمثابة الموت لهم. ويبقى السؤال: أنّى لوطنٍ أن يتعافى إذا ما ضُرب فيه أصحاب تلك الصفات.
محمد يوسف المجذوب
النهار
الوسوم :لن نرضى بإلغاء الصحافة المكتوبة