د. روبير شعيب / زينيت
في تصوّراتنا الشائعة ، الموسومة بثنائيّة متأصّلة ، يُعرّف الإنسان مـــُركّبا من نفس ٍ وجسد ٍ سيفكّكه الموت تماما ؛ فأين هذه النظرة من وجهة نظر الكتاب المقدّس الحسّاسة جدّا إلى وحدة الإنسان بقلبه ولسانه ويديه ؟ يجب على الأقل تبيان الآفاق التي تــــُفتَح ، قبل تقديم بضعة مراجع إنجيليّة عن موت ويسوع وقيامته.
في الواقع ، الإنسان في الكتاب المقدّس كلٌّ واحدٌ لا يقسمه حتى الموت نفسه ؛ لأن الكتاب المقدس ينظر إلى الموت كــ ” مرور من الكائن في الحياة ” ، إلى ” الكائن بدون الحياة ” . إنه ليس إنفصال النفس الخالدة عن الجسد الفاني ، بل هو فقدان أيّ حيويّة في مقرّ الأموات . المتوفّى أو الجثّة لم يعد ” النفس الحيّة ” التي وجِدَت بفضل نفخة الله ” باليونانيّة Pneuma وبالعبرانيّة Ruah ؛ هذه النفخة تركته الآن لكي تعود إلى الله الذي منه أتت . لذلك هو الله أيضا مَن يمكنه أن يوقظ أو يقيم من بين الأموات . هكذا يُنظَر إلى الموت في العهد الجديد بسياق القيامة ، وليس الخلود.
يقول بيير مورلون بيرنير اليسوعيّ ( وهو من معهد نور الحياة في بروكسل ، يعمل على تكوين معلّمي التعليم المسيحيّ المحترفين من القارّات الخمس ) : في منظور الكتاب المقدّس ، ليس الإنسان نفسًا تجسّدت مؤقّتا في جسم ، بل الإنسان جسد حيّ ، جسد يعيش ” ليس : الإنسان له جسد ، بل : الإنسان هو جسد”.
الموت الطبيعيّ هو إحباطٌ كامل لوجود ٍ إنسانيّ بدون مبادرة الله الخلاصيّة . إذا تكلّمنا بمنطق ٍبشريّ ، فالموت ضيقٌ مزمن ، إذ يلغي شكلَ الوجود الوحيد الذي نعرفه . ليس الموت مأساة من بين المآسي ، بل هو المأساة التامّة التي لا عودة منها ، المأساة التي يمكننا القول إنها مطلقة . وفرنسوا فاريون يصفه بأنه ، من الوجهة الإنسانيّة ، هو مصيبة وحجر عثرة ، هو المأساة بالتعريف ، فإنّ الموت يدمّر وجود الإنسان في أصله . وفي رأي البير كامو الموت ” سخافة ” . ويقول البابا بنديكتوس السادس عشر في كتابه (الإسختولوجيا – الموت والحياة الأبديّة ) ” الموت حاضرٌ بصفة كونه بطلانَ وجود ٍ فارغ يؤدّي إلى شبه حياة ، حاضرٌ بصفة كونه مسيرة الإنحلال الطبيعيّة التي تعبر الحياة ، والتي يشعر بها الإنسان في المرض ، وتنتهي في الموت الطبيعيّ”.
عند ساعة الموت ، يتوقّف القلب عن النبض نهائيّا . إنه العضو الطبيعيّ بالتأكيد ولكنه ايضا مركز الشخصيّة الواعي الحرّ ؛ ويكفّ اللسان عن التعبير عن ذاته ويـــُقفَل الفمّ ، بذلك يتوارى عالم التواصل الكلاميّ ؛ وتكفّ اليدان عن الحركة والعمل وتتصلّبان . لقد زال نهائيّا كلّ تأثير الإنسان وكلّ قوّة عمله .
ولكن عندما يُنظَر إلى الموت مواجهةً هكذا ، بدون تزوير ظرف الإنسان المأساويّ ، فإنه أيضا يمكن القياس إلى أيّ حدّ يكون الوعد بالقيامة حدثا وبشارة حسنة : قيامة ، أي حياة أخرى ، ما بعد الموت ، إنسانيّة تماما ، بفضل تدخّل الإله الحيّ.
قلبٌ جديد يُقدّم إلينا ، على نحو ٍ لا يمكن وصفه بطبيعة الحال (إنه بالتأكيد أنا ، لكنه تغيّر : 1 كور 15 : 42 – 44 ) ، لسانٌ جديد وكلمة جديدة نُعطاهما حقّا ” هكذا تكلّم يسوع المسيح القائم مع خاصّته ؛ يدان جديدتان نُعطاهُما ، مع قدرة جديدة للعمل ، ” حتى تبتلعَ الحياة ما هو زائل ” (2 كور 5 : 4 ) . لم يكن في رؤية الكتاب المقدّس بأيّ وقت ٍ من الأوقات تحطيمٌ للإنسان . فالمصير الذي ينتظرنا لا يستطيع أن يحطّمنا ، حتى لو التَقَطَنا ليوم واحد.
ويقول هنا بيير مورلون اليسوعيّ :” بفضل ٍ من الله ، كما نرى في يسوع المسيح الذي هو ” البدء والبكر من بين الأموات ” (قول 1 : 18 ، أيضا 1 قور 15 : 20 ) ، يؤدّي الموت بكلّ واحد إلى قيامته الشخصيّة . فمصير هذا الإله يحوّلنا بأسرنا. يموت الإنسان بقلبه ولسانه ويديه ، وهو الإنسان ذاته الذي يُقيمه الله ، ولكن على وجه ٍ آخر ، وبشكل ٍ لا يوصف بالتأكيد ، سوى للقول إنّ لديه قلبًا ولسانا ويدين . الله وحده يستطيع أن يجعل موتنا البشريّ لا نقطة النهاية بل عتبة مرحلة التحوّل إلى حياة لا تنتهي معه.