حسر نفقات. بهذه العبارة، يمكننا تلخيص ما تعيشه “بي بي سي” اليوم. قبل أشهر، غادرت “هيئة الإذاعة البريطانيّة” الشهيرة، مبناها التاريخي الشهير في لندن، الذي شغلته بين عامي 1960 و2013.
وقبل أيّام، أعلن مديرها طوني هول، نيّته الاستغناء عن قناة “بي بي سي 3” بالكامل، لتكون أولى ضحايا سياسة التقشّف. الهيئة الطالعة من فضيحة أخلاقيّة زعزعت صورتها، إثر انكشاف تحرّش نجمها السابق جيمي سافل بقاصرين، تستعدّ لحقبة جديدة، مطلع نيسان القادم. أيّام وتنضمّ خدمتها العالميّة (وورلد سرفيس)، إلى “بي بي سي” الأم، إدارياً ومالياً بالكامل.
وذلك يعني، أنّ تمويل الخدمة الناطقة بالعربيّة، وأخواتها، لن يمرّ بعد اليوم عبر وزارة الخارجيّة، بل عبر الإدارة الرئيسيّة للهيئة، المموّلة عبر الرسوم الإلزاميّة السنويّة التي يدفعها كل بيت بريطاني يمتلك تلفازاً. هل يؤثّر تغيير شكل التمويل على ميزانيّة الخدمة العالميّة، وبالتالي التخلّي عن بعض قنواتها، ومنها القناة العربيّة؟ “على العكس”، تردّ مديرة الخدمة العالميّة لـ”بي بي سي” ليليان لاندور، “ستصير ميزانيّة BBC World Service، والهيئة الأمّ واحدة، ما يسهّل العمليّات الإداريّة. كما أنّ انتقال تمويل الخدمة، بلغاتها الـ32، ووسائطها الثلاث إذاعة، تلفزيون وويب، سيضيف إلى ميزانيّتها الأصليّة البالغة 245 مليون جنيه استرليني، 8 مليون جنيه (نحو 13 مليون دولار)”.
زارت لاندور بيروت قبل أيّام، لتفقّد مكتب “بي بي سي”، وكان لها زيارة إلى “السفير”. بدأت السيدة التي تتكلّم العربيّة بطلاقة (إلى جانب أربع لغات أخرى)، مسيرتها في خدمة “بي بي سي” الفرنسيّة العام 1989. تنقّلت في مناصب عدّة، ثمّ تولّت إدارة “بي بي سي الشرق الأوسط” في العام 2009، وتشغل حالياً إدارة الخدمة العالميّة بجميع قنواتها ونشراتها الإخباريّة، موزعة اهتمامها بين العالم العربي والهند وإيران وتركيا وصولاً إلى قرغيزستان وبورما. وحين نسألها ما إذا كان ابتعاد الخارجيّة البريطانيّة عن تمويل الـ”وورلد سرفيس”، سيجعلها أكثر استقلاليّة، تقول: “ذلك غير صحيح، فطوال عقود عملها الثمانية، وحتى خلال لحظات تاريخيّة وسياسيّة مفصليّة، مثل تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، ولاحقاً خلال حرب العراق، بقي الخطّ التحريري لـ”بي بي سي” دائماً مستقلاً عن الحكومة، ولم نتلقّ يوماً اتصالاً من الخارجيّة يحدّد صيغة تعاطينا مع خبر ما.
لم تكن استقلاليّة “بي بي سي” موضع سؤال أبداً، لكن الأكيد أنّ نظرة المتلقين للقناة ستتغيّر الآن بعد تغيّر شكل التمويل، وبالطبع، سيكون من الأسهل بالنسبة لهم أن يقتنعوا باستقلاليّة الهيئة. ولكن من جهتي، لا أجد نفسي مضطرة أن أقول نحن مستقلون، فذلك واضح”. بين الخدمات “وورلد سرفيس” المتنوّعة، واحدة فقط تبثّ لأربع وعشرين ساعة متواصلة، وهي “بي بي سي العربيّة” (تلفزيون، راديو، أونلاين)، تليها “بي بي سي فارس” وتبثّ 18 ساعة على الهواء مباشرةً، إلى جانب 7 ساعات إعادة. أمّا الخدمات الناطقة بلغات أخرى، فمعظمها عبارة عن شراكات مع قنوات محليّة، تنتج لها “بي بي سي” ساعات إخباريّة. “مشروع بناء قناة ناطقة بالتركيّة أو الروسيّة من الصفر، مغامرة كبيرة في العام 2014، ولذلك نركّز اهتمامنا حالياً على إنجاز نشرات إخباريّة بلغات عدّة، منها الفرنسيّة والتركيّة والباكستانيّة…”، تشرح لاندور. بالنسبة لها، فإنّ استمرار بثّ “بي بي سي العربيّة” لمدّة 24 ساعة، هو دليل على نجاحها، والارتفاع الملحوظ في نسب مشاهدتها في الفترة الأخيرة. وفي ظلّ الاستقطاب الطاغي على المشهد الفضائي عربياً، ما العنصر الإضافي الذي تقدّمه “بي بي سي” للمشاهد العربي، ولا يجده على القنوات الأجنبيّة الأخرى الناطقة بالعربيّة؟ تقول لاندور إنّها تطرح السؤال ذاته على من تلتقي بهم من مشاهدي القناة، في البلدان التي تزورها.
وتضيف: “أعتقد أنّ ما يميّز “بي بي سي” هو سمعتها الصلبة، خصوصا ًأنّنا نقدّم الأخبار بأكثر شكل موضوعي ممكن. قد لا نكون أصحاب السبق، ولكن الأكيد أنّ المتفرّج الباحث عن خبر دقيق، يلجأ إلى موقعنا أو شاشتنا”. وتضيف: “ليس لدينا ترف اختيار خطّ تحريري، الخطّ التحريري الراسخ في الهيئة يفرض نفسه على جميع تغطياتنا سواء في مصر أو سوريا أو أوكرانيا.
نحن نعرض الوقائع كما هي، الصور والأخبار من دون تعليق، ومن دون إعطاء رأي، ومن دون توجيه، ونترك للمشاهد أن يكوّن رأيه الخاص من خلال تلك المعطيات”. لم تنجُ “بي بي سي” من فخّ عدم الدقّة، إذ أنّها نشرت صورة التقطت في العراق العام 2003، قالت إنها لمجزرة حصلت في سوريا العام 2012. فكيف للهيئة أن تراهن على المصداقيّة، في وقت بات ذلك مهمّة صعبة، مع تدفّق المعلومات والصور بشكل مكثّف على مواقع التواصل؟ تؤكّد لاندور في هذا السياق، أنّ التدقيق يزداد صعوبةً يوماً بعد آخر، “وكنا قدمنا اعتذاراً عن ذلك الخطأ غير المقصود، ولدينا قسم كامل للتدقيق بصحّة المعلومات”.
في المقابل، “نحثّ جميع المراسلين والعاملين في “بي بي سي” لينشطوا على “تويتر”، ونراهن على دور السوشل ميديا في مستقبل عملنا بشكل كبير”. في هذا السياق، تشمل خطّة “بي بي سي وورلد سرفيس” للمستقبل القريب، تطوير وسائطها الرقميّة، من خلال اللجوء إلى شباب “يفكرون ديجيتال”، كما تقول لاندور. كما تسعى إلى تطوير خدمة “آي بلاير” الخاصّة ببثّ برامجها على الشبكة وتطبيقات الهاتف.
“نتفكليكس قادم ليغيّر عادات الجميع”، تقول لاندور، “وقد تبدأ “بي بي سي” بصناعة برامج وثائقيّة لبثّها على خدمة “آي بلاير” قبل عرضها على شاشة التلفزيون، من خلال اشتراك مدفوع”. ذلك إلى جانب اهتمام خاص بالراديو. تقول مديرة “بي بي سي وورلد سرفيس”، “قبل خمس سنوات تكهنت معظم الدراسات أنّ الراديو سيختفي كلياً، لكنّه اليوم يعيش فترة خصبة، ويحصد اهتماماً أكبر من السابق”. بالنتيجة، وبرأي ليليان لاندور، “من الصعب جداً أن نتكهّن بأي شكل ستتغيّر صناعة الميديا”.
سناء الخوري / السفير