من نتائج ظاهرة الانحرافات الاستحواذية المألوفة في المجتمعات التقليدية الأبوية التي يُدرج المجتمع اللبناني فيها، وفي الأنظمة السياسية الاستبدادية أو الاقطاعية أو الطائفية، اقتناع المرجعيات الاجتماعية والسياسية الاستحواذية التي يرتبط بها إلى حد كبير القطاع الاقتصادي، بحقها في الاستحواذ الكامل والحصري على البلاد والعباد.
تُترجم هذه النزعة الاستحواذية حكوميًا ومؤسسياً بسعي تلك المرجعيات للهيمنة الدائمة والكاملة على الوظائف العامة، فتتحكم بالتعيينات والترقيات، وإعلاميًا بالسعي لتكون وسائل الإعلام الأقوى خاضعة لها، فتضخّم آراءها بحيث تهمش الأصوات المعارضة، وتُضعف من قيمة تنوع الآراء وتسخّفها. وفي حال تكاثر المرجعيات الاستحواذية داخل المجتمع الأبوي الواحد، كما هي الحال في لبنان، تسود سياسة “تقاسم الجبنة” في زمن الهدوء النسبي، ويتنامى موقف العداء والمنافسة بين تلك المرجعيات عند حدوث تغييرات خارجية قد تصب لمصلحة إحداها، الأمر الذي يخلق جوًا مؤاتيًا لنشوء أزمات سياسية أو أمنية أو اقتصادية يمكن أن تصل إلى حد تهديد السلم الأهلي وانهيار الدولة.
وفي السياق عينه، يشير الدكتور وجدي فريد (“سيكولوجيا الاستحواذ”، مجلة “المشرق”، 2015)، إلى أن التعصب بكل أشكاله، وضعف الروح الوطنية، والاستهتار في تحمل المسؤوليات، والمطالبة بالحقوق من دون القيام بالواجبات، تنتج أيضًا من الاستحواذية. وبما أن المرجعيات الاستحواذية تمسك بأساليب الضغط النفسي والمادي على الجماهير من خلال تحويل نفسها ضمانة الاستمرار الوحيدة، وقدرتها على فرض تفاسيرها لمجريات الأحداث الداخلية والخارجية بفضل وسائل إعلامها وأتباعها، وتأمين الخدمات والوظائف، بل وحتّى قدرتها على اللجوء إلى العنف، فإن الاستحواذية تتفاقم ومعها تتفاقم نزعة الجماهير إلى التبعية والاستسلام أو اللامبالاة واليأس.
ينزع الفكر الاستحواذي السياسي بحكم منطقه الخاص إلى الموقف الدفاعي إزاء كل ما يبدو خطرًا خارجيًا عليه، ومن الطبيعي أن يستفحل هذا الموقف في الظروف الاستثنائية، إذ يتقاطع ومخاوف جمعوية يسهل عليه توظيفها لتعزيز سطوته. وإذا نظرنا إلى الواقع اللبناني، نلاحظ في الأوساط المسيحية ترجمة لهذا الموقف في إسراع الفكر الاستحواذي السياسي إلى تبني غالبية الطروحات التقليدية التي تُدرج في خانة ردود الفعل العفوية الأقلوية تجاه ما يهددها داخليًا وخارجيًا، والتي تتكرر، وإن بصيغ مختلفة، في التقاطعات المحلية والإقليمية الحرجة، مثل اللبننة التامّة أو التقسيم أو الفيديرالية أو سن قانون انتخابي يحفظ التمثيل المسيحي كما يجب – وإن على حساب استفحال المذهبية (مثل القانون الأرثوذكسي) – أو قانون تمثيل يقوم على أساس المناصفة وليس على أساس الوزن الديموغرافي، أو أيضًا المطالبة باستعادة الجنسية للمهاجرين أو تجنيس المسيحيين السوريين والعراقيين، أو المطالبة بإعادة النظر في مراسيم التجنيس التي صدرت إبان زمن الوصاية السورية، أو استعادة حقوق المسيحيين في الحكم وغيرها من ردود فعل عفوية دفاعية. ولا شك في أن الفكر الاستحواذي السياسي يستفيد كثيرًا من ردود الفعل هذه لأنه من خلال توظيفه إياها وتغذيتها بخطابه يقوي العصبية الطائفية والمذهبية التي يجعل من نفسه حاميها أو مخلصها.
وعندما تُطرح حلول للواقع اللبناني خارجة عن العفوية الدفاعية، مثل العلمانية والديموقراطية، فهي لا تعطي النتائج المرجوة، ولا تُناقش ضمن أطر موضوعية وجدية من شأنها أن تؤدي إلى تغيير تدريجي وفعلي في المجتمع، ذلك أن الفكر الاستحواذي السياسي يسرع إلى إحباطها أو التعتيم عليها أو تشويهها من خلال إدخالها ضمن لعبة خداع داخلية مألوفة، سبق أن عبر عنها خير تعبير المؤرخ كمال الصليبي: “على المستوى السياسي، بدل أن يكون مطلب العلمنة صادقًا، فهو أصبح مجرد لعبة خداع بين الفرقاء المعنيين، على مثال لعبة اللبننة السيئة النية إزاء العروبة السيئة النية أيضًا… فمن جهة، تدفع الأحزاب الإسلامية والدرزية إلى إلغاء الطائفية لصالح العلمانية على المستوى السياسي، مع علمها جيدًا أن مثل ذلك الإلغاء لن يكون ممكنًا إلا إذا طُبق أيضًا على المستوى الاجتماعي. ومن ناحية ثانية، أدرك القادة المسيحيون أن المطالبة بالعلمانية السياسية من قبل المسلمين والدروز تهدف إلى إلغاء سيطرة المسيحيين السياسية على الدولة، فكانت ردة فعلهم بأن العلمانية الحقيقية في لبنان لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أُلغيت الطائفية على المستوى الاجتماعي كما على المستوى السياسي” (بيت بمنازل كثيرة، 1989).
سيبقى الفكر السياسي الاستحواذي يدور في حلقة مفرغة نتائجها الوحيدة باتت معروفة ألا وهي مزيد من تأزم عمل النظام، ومزيد الانقسامات المذهبية والمناطقية، ومزيد من “تقاسم الجبنة”، ومزيد من لعبة الخداع الداخلية، ومزيد من الضعف الداخلي إزاء الصراعات الإقليمية.
لا يسمح الفكر الاستحواذي السياسي بقراءة موضوعية هادئة، لا للواقع اللبناني وتجاربه منذ تأسيس دولة لبنان، ولا لأحداث المنطقة عمومًا، الأمر الذي يسمح بالابتعاد عن ردود الفعل العفوية الدفاعية ومخاطر توظيفها للمصالح الضيقة، ويفسح في المجال لحلول جدية تحمل أملاً بمستقبل مشرق لجميع اللبنانيين.
وإذا نظرنا إلى المواقف الدفاعية الاستحواذية المسيحية المعتمدة بشأن الأزمة الرئاسية، نلاحظ بسهولة أنها تربط الأزمة المذكورة بصراع على السلطة لا ينفصل عن قوى أو أحداث إقليمية مؤثرة فيه، وقد اتخذ مسارًا مجحفًا بحق المسيحيين بدءًا بالاستقلال، ومرورًا بأحداث 1958، فاتفاق القاهرة، فاتفاق الطائف، وصولاً إلى اليوم. لذا، ما عاد أمام المسيحيين سوى المطالبة باستعادة حقوقهم، لا سيما في زمن يبدو فيه الحضور المسيحي في الشرق بأكمله مهددًا.
لا حاجة إلى القول إن مثل هذه المواقف لن تؤول إلا إلى تغذية العصبية المذهبية وإضعاف متزايد للنظام؛ ولا حاجة إلى القول أيضًا إن أي مخرج إيجابي لها، إن سمحت الظروف ببلوغه، لن يكون سوى في إطار سياسة “تقاسم الجبنة”.
بالطبع، يجب التمسك بحقيقة أن وعي اللبنانيين المتنامي لآليات العمل السياسي الاستحواذي سيفتح مع الوقت باب رجاء أكيد. ولكن ألا يمكن أن يخرج في هذه اللحظة الحرجة صوت مسيحي واحد تدعمه المرجعيات المدنية والدينية، ينتفض على الفكر السياسي الاستحواذي ونتائجه، ويتبنى بصدق وشفافية المبادئ الدستورية لتكون نقطة انطلاق لبرنامج يعاكس مسار الأمور المألوف؟
ألا يمكن أن يخرج صوت مسيحي واحد يحظى بدعم المرجعيات المدنية والدينية لديه الجرأة لينظر إلى أبعد من فورة الحركات الإسلاميّة العنفية والثورية ونتائجها الكارثية على المسيحيين وغير المسيحيين، ليرى أن المنطقة بأسرها – لنستعير تعابير بولس الرسول- “تئن إلى اليوم من آلام المخاض”، تئن من حاجتها إلى الديموقراطيّة والحرية وحقوق الإنسان، وأن للمسيحيين الدور الفاعل في صنع المستقبل؟
صلاح أبو جوده