المونسينيور بيوس قاشا
فنحن عنوان الحياة في وطن نرفض فيه أن نموت فالأمل فيه رجاؤنا والمسيح فيه إيماننا.
ѻ نعم، تسعة أشهر مرّت ولا زال السؤال: لماذا، لماذا، لماذا؟، إنها لماذا بقدر مأساتنا ودموع الرجال تزلزل الأرض تحت أقدامهم. نعم، اهتزت الأرض فزعاً واضطراباً وخوفاً… إنها لماذا بقدر حجم مأساتنا كما قال ربنا يسوع المسيح يوماً لخادم حنّان وقيافا:”لماذا تضربني؟”، والساعة نقول: نغم، لماذا أُطرَد من دياري، ألا أنها كلمةُ الحق.
ѻ تسعة أشهر مرت والجيران الأشرار بداعشهم وإرهابهم يجولون في ديارنا وحاراتها، في مخادعنا ومنازلنا، في الأزقّة وحنايا المعابد، يسرقون ويستبيحون كل شيء، يدنّسون كنائسنا، يكسرون صلباننا، باسم الله يحلّلون غزواتهم ويحطّمون تماثيل رموزنا، إنها أملاكُ النصارى والكفار، ويعلنون أنفسهم حماةً لسابع جار، فبئسهم، فأولُ جار لهم سرقوه ثم قتلوه دون أن يدركوا أنهم هم الكفّار.
ѻ تسعة اشهر مرت ونحن لا زلنا نُعرَف بساكني الخيام وناطري الكرفان وحاملي الآلآم وشاردين بين الأنام لا نعرف متى ينبلج الفجر والصباح ومتى تغيب الدنيا والزمان، وأصبحنا ضياعاً بل مشردين في شوارع المدينة ونسينا كتابة ملفاتنا فدفاتر مدارسنا قد بيعت وأقلامُنا انكسرت ولم يبقَ لنا إلا التأوّه والسؤال.
ѻ تسعة اشهر مرت ونسأل: هل سنعود؟، وإذا عدنا هل سنكون أم نرى ما لم تره عين ونسمع ما لم تسمع به أذن؟، فنموت صغاراً في عقر دورنا كما مات لعازر، فلا رابوني في الدار وما الجيران إلا أشرار الزمان.
ѻ تسعة اشهر مرت ولا زال ليلنا لم ينجلِ، ولا زال الخوف والفزع يدغدغ أفكارنا ومسارات دمائنا مرة في البقاء وأخرى في الرحيل إلى الأرض الموعودة وثالثة في الخطف والسلب والنهب… إنها مكائدٌ ومؤامراتٌ تُحاك أمام عيوننا من كبار الدنيا بشرقهم وغربهم، بأقاليمها وبلدانها، ويقرأون بياناتهم على مسامعنا ولا نعلم هل كنا ندرك مداها كي نمدّ أيادينا إلى مَن ينقذنا.
ѻ تسعة أشهر مرت ولا زال الألم يقلق مضجعي ويبلبل أفكاري في سؤال “لماذا”، لماذا هذه الحالة البائسة، أليست المقالات والبيانات والتعقيبات والردود وحضور المؤتمرات وإلقاء المداخلات من شأنها أن تصنع لنا معجزاتٍ، فشعبنا تائه، مسكين، ضائع، مهجَّر ونازح، وبدأ يتقزز من كل الأحداث والحوادث ورائحتها الكريهة، فربما حاملوها ليسوا مخلصين لها أو لا يهمهم أمر صليبهم، فالشعب ليس بحاجة إلى مناصب ومزيّفات وزيارات إعلامية لمسؤولين وإداريين ودوليين إلى لاجئينا وإن كان هذا في باب القبول والشكر، ولكن السؤال: لماذا لا نترجم ذلك إلى جوابٍ شافٍ في صفحات الدستور لأن الحقيقة _ وإنْ كان قسم منها في البطون _ لكن الحقيقة الثابتة في ملء العقول، فأرضنا بيعت ومساكننا هُدمت ونُهبت وأديرتنا دُنّست، وأسأل لماذا؟، فنحن لم نقترف جرماً وإنما كنا أبرياء.
ѻ تسعة اشهر مرت ونحن لا زلنا أمام مستقبل مجهول وشعورنا بالوطن وقدسية ترابه والانتماء إليه أصبح في خبر كان بل حتى في اسم إنّ، نلوم الوطنَ ومَن أتوا إليه ضيوفاً، كانوا جيراننا، سنين عديدة كانوا يرتزقون من محبتنا وكَرَمنا واحترامنا، وهم اليوم أشرارٌ بدواعشهم وأصبحنا نحن مُهجَّرين ومهاجرين، نزلاء ودخلاء، وعيوننا في الرحيل إلى البعيد البعيد، عبر البحار والمحيطات، عبر القارات والمحطات… فالأمر لم ينتهِ بعدُ. فحتى في رحيلنا نخاف هل سيقبلوننا نزلاء أو سنبقى دخلاء وإن كُتب علينا أننا مهجَّرون ومهاجَرون؟، وهل ستطول مدة رحيلنا ولن نعود؟.
ѻ تسعة أشهر مرت وشعبنا لا يعرف إلا بساطة المسيرة سُذجاً، نفتح أبوابنا للقاصي والداني وليس لنا مكائد كبقية الشعوب، أما هم فيقتلون ويغسلون أياديهم كبيلاطس ويعلنون أنهم أنزلوا علينا آياتهم، وإنهم الأَولى بالمعروف وما علينا إلا الخضوع ةالركوع تمجيداً لهم بالروح بالدم نفديك يا باشا.
ѻ تسعة أشهر مرت والعمل الدولي غائبٌ يراوح في ساحة الميدان، وربما غير مبالٍ بمسيرتنا المؤلمة، فأحبارنا ألأجلاء كانوا يوماً أمراء على منصاتهم وصرخوا وأعلنوا أصواتهم “يا قوم، يا عالم، هناك شعب يموت، يهجَّر، يُشتَّت. هنالك شعب يُستأصل”… وكبار كنائسنا الأعزاء ركبوا البحر والجو والبر وجالوا وقابلوا واستقبلوا كبار الدنيا ومخططي المؤتمرات وتغيير الأوطان ومنسقي الحروب والأزمنة فأسمعوهم وعوداً وتمنياتٍ ولا نزال حتى الساعة ننتظر بشارةً تنقلنا إلى الحل الأمين فقد أصبحنا قضية وأتمنى أن لا نكون قضية فلسطين فقد باعها الأعرابيون وأنا أيضاً أخاف من أن نبيع قضيتنا بسبب خوفنا بسكوتنا وقبولنا بواقع كُتب على جباهنا وما علينا إلا الخضوع صغاراً وأن نردد بنعم لا نهاية لها وإن كان لها بداية.
ѻ تسعة أشهر مرت ونحن نتساءل: أنقبل المجازفة أم نخاف الموت أم نسعى للبقاء أم نخشى الفناء؟… أنحمل الصليب أم نرفض الصلب؟… كل شيء نراه موتاً وفناءً وصلباً وحتى مسيرة الأيام كلها رعب وسؤال لماذا ولماذا ولماذا… إنها كلمات وفقرات وألفاظ تقودنا إلى هدم حائط رجائنا وكسر معنويات إيماننا، إنها محطات تقتلنا قبل قتلنا.
ѻ تسعة أشهر مرت ونحن ننتظر جواباً لسؤال: لماذا كُتب علينا الاضطهاد؟، ولماذا حتى الساعة نخاف فنهرب والإعلام يُعلمنا إنها مؤامرةٌ إقليميةٌ بل دوليةٌ. ما يخيفنا ما حلّ فينا، هل حققت المؤامرة أهدافها؟، هل اكتمل مخططها أم لا زالت هناك زوايا مظلمة في مسيرة نعتبرها حقوقيةً للإنسان وحياتيةً للشعوب.
ѻ تسعة أشهر مرت وإبادةُ العثمانيين لنا لا زالت سيوفُها مشرَّعةً في وجوهنا لقطع رقابِنا، ومذابحُها تذكرنا بمصالحَ المتحاربين. كان أجدادُنا حينها خرافاً وضحايا وكباشاً وفداءً وهاهو التاريخ يعيد اليوم ذاكرتَه بصور بشعة في زمنِ منظماتٍ تدّعي إنسانيتها، فقد كُتب علينا أن ندفع ضريبة الشر لوحشية إرهابها، ضريبة الماء والحياة، وحتى ضريبة الهواء.
ѻ تسعة أشهر مرت وفيها أصبحنا ضياعاً وأمسينا مشرَّدين في شوارع المدينة وأزقتِها وساحاتِها، نفتش عن هويتنا فقد ضاعت منا البصمةُ والأختامُ ولم نعلم أين القريب وأين الجار، أين الوطن وأين الدار، اين مسيرتنا عبرَ الأجيال… إننا أصلاء وها نحن اليوم شهداء بلا قضية فالقضية دارت في أروقةِ الكبار والانتظارُ مرضٌ لنا ودمار.
ѻ تسعة أشهر مرت ولا زال شعبنا ممزَّق في أحزابه وأهدافه وتعددِ أعلامه وراياته، أليست الحقيقة أن نرجع إلى صوابنا؟.. أليس من الواجب أن نتَّقِ الله في شعبنا المظلوم على أمره؟. أليس من الواجب أن نسأل الله كي يفتقد شعبه ببقيتنا الباقية أو ما تبقى من شعبنا ليزيد المحبة ويفيضها في النفوس فتتصاغر وتتنازل وتغفر وتوحّد هدفاً ورايةً وعلماً؟ ولنعلم أننا حضارةٌ وتاريخٌ، أصلاء في أرض الأجداد والشهداء ومن المؤسف أصبحنا في فوضى لا توصف وأصبحنا مستأجرين بعد أن كنا أصليين.
ѻ تسعة أشهر مرت ولا زلنا حتى الساعة لسنا بمستوى يؤهلنا تجاوز مشاكلنا الداخلية وتعويض خسائر شعبنا وإيجاد مجالاً للثقة والرجاء بالعودة والبناء ولسنا بمستوى من الشهادة للحقيقة بدل الفساد في خلع الإنسان القديم ولبس الإنسان الجديد، ومن العبث الحديث عن حقوقنا وعن وحدتنا إذا لا نوحّد صلاتَنا فهي لا تنبع من الشفاه بل تلهج بها القلوب وليست صفاتُها التأوّه والتأسف بل دليلُها دموعٌ ومحبة كي تصل إلى الفداء “له ينبغي أن ينمو ولي أن أنقص”، فكلنا نريد أن نكبر بأساليب خادعة ولا أحد يريد أن يتواضع ليقول الحقيقة، فنحن لسنا بحاجة إلى شفقةٍ كمستضعفين في شوارع العالم بل إلى مدّ الأيادي في الدتخل كما في الخارج فنكون صوتاً واحداً في محاربة المحسوبية وفسادِها والمحاصصةِ وكبارِها وكفى الخنوع لأشخاص يزيّفون مسيرتهم وإلا كنا من الضالّين.
ѻ تسعة أشهر مرت ولا زال الواجب يناديني أن نزيد اجتماعاتنا في بيوتِ الرب وكنائسنا، نُمضي ليالينا في الصلاة والسهر والتوبة ونقضي أيامنا في الصوم والغفران، إن مؤتمراتِنا أكثرُ كلماتٍ من صلواتنا فالنفس في الصلاة تنتعش وأما الجسد ففي السفر يستجم… وربنا قال “صلّوا ولا تملّوا”، ويذكّرنا أنجيلنا أن ربَّنا يسوع كان يصعد الجبل ليصلّي، ليقضي الليل كله في الصلاة… أليس هذا هو سؤال الرب لنا في هذا الزمن؟… نعم، لنصلِّ فالصلاة مفتاحُ باب السماء وما علينا إلا أن نكون طلاباً تحت أقدامِ الصليب إنَّ ذلك مفتاحاً لنزوحنا ولمأساتنا.
ѻ نعم، ما أُدركه بعد تسعة أشهر… إن الرب لا زال ينادينا لا تخافوا، ثقوا بالمسيح الحي وبالصليب كُتب لنا النصر بل هو انتصر بالصليب وأرادني أن أشاركه الانتصار بالقيامة ومهما كان النهار قاسياً والظلام مخيفاً ستكون القيامة فرحاً ونوراً مضيئاً وما علينا إلا أن نكون صوتاً للإيمان. فإن كان الصليب صلبَ الموت فنحن بإلهنا المسيح الحي أبناءُ القيامة، أبناء الحي بين الأموات. ومأساتُنا دعوةٌ لنا للتوبة، كبار كنائسنا وصغار معابدنا وخدّام أديرتنا ومؤمنو رعايانا ليس إلا!.
ѻ نعم يا رب… أنت تعلم بحالنا… فيا رب بحرُنا هائج وأنفسنا ترتعد خوفاً من الغرق وإيماننا يقول أنك أنت خلاصنا وما يدك إلا القدرة بالذات… فشرقنا يموت معذَّباً ولكن رجاؤنا أننا سنقوم من جديد.فيا رب ألا تكفي تسعة أشهر من الهجرة والنزوح ، الستَ أنت الذي زرتَ أرضنا بعد تسعة أشهر في مغارة هي الكون بأكمله ، فلتكن مشيئتك ، نعم تعال أيها الرب يسوع فنحن بحاجة الى زيارتك .. نعم وآمين