في ظل الأسئلة والنقاشات المحمومة في لبنان على عتبة تحولات مفصلية، يبقى السؤال الأكثر إثارة وغموضاً في سياسات الدول الفاعلة، عن اتجاهات الفاتيكان تجاه بلد الرسالة، بمسيحييه ومسلميه، ونظرته للتحديات الكيانية وخاصة تلك المتعلقة بالنظام السياسي والعلاقات بين المكونات الطائفية.
بيروت التي لا تزال تلملم جراحها من انفجار المرفأ وتواجه أخطر أزمة كيانية عصفت بلبنان، تحفل في الفترة الأخيرة بنقاشات وحوارات تلتقط إشارات الدخول في مرحلة جديدة بعد منعطف اتفاق ترسيم الحدود الذي خلق مشهداً جيو استراتيجياً جديداً في لبنان وشرق المتوسط.
أين الفاتيكان من كل يحصل، وبقيادة بابا كثير التحسس بقضايا الظلم والعدالة الإجتماعية؟
في حلقة نظمتها “الإستشارية للدراسات” في مكتب السفير منصور عبد الله عن “لبنان والحاضنة الفاتيكانية بين الهوية والرسالة”، قدم المختص بشؤون الفلسفة السياسية وسياسات الفاتيكان الأب الدكتور باسم الراعي، صاحب المؤلفات التي تتناول وجدان الطوائف في لبنان وميثاق 1943، الكثير من الأجوبة، وأبقى بعض التساؤلات قيد التساؤل والغموض “البنّاء”.
وما أفصح عنه الراعي كان واضحاً. الفاتيكان يرفض المسّ بالمناصفة، ويربطها بالحفاظ على التنوع والتعددية والمشاركة في القرار. جواب كان كافياً لمحاولة المحاور الزميل قاسم قصير لاستدراج النقاش إلى زج الفاتيكان في مسألة تطوير النظام، لكن الراعي أبقى على تمسك الفاتيكان بالطائف مع ترك الأمور للبنانيين أنفسهم، لا بل أن الراعي شدد على أن أي اختلال في الصيغة بالنسبة للفاتيكان يعني زوال لبنان.
الراعي شدد على أن ثوابت الفاتيكان تتمثل خاصة في التمسك بلبنان كقيمة حضارية ثمينة، لا تعني فقط التجاور والتحاور التقليدي الذي يعرفه اللبنانيون لا بل طوروه في شكل بديهي، بل أن القضية الأساس تبقى تأكيد حضور جميع المكونات، ومن ضمنها المسيحيون، في القرار السياسي والسلطة.
يستدرج النقاش الراعي إلى تلميحه إلى ضخ جرعات من الفلسفة الألمانية – التي درسها – في إدارة التعددية إلى الفكر السياسي اللبناني، المُشبع والمؤسس على المركزية الشديدة فرنسياً، ما يفصح عن سعي مسيحي في دوائر التفكير لتوسيع مساحات الإعتراف بالتعددية الدينية والسياسية. ويستطرد النقاش إلى تأثير الفاتيكان في سياسات صنع القرار الفرنسي والذي دفع إلى مساهمة باريس في صنع لبنان الكبير بعدما كانت الدوائر العلمانية الفرنسية تتجه إلى خيار “سوريا الكبرى”.
هواجس وأسئلة شيعية
الفرح الذي أبداه الراعي لتزايد منسوب اللبننة في البيئة الشيعية – وضمنياً كان يشير إلى بيئة حزب الله تحديداً وأدبياته – يستفز ممثلي الثنائية الشيعية من الحاضرين الذين أخرجوا تراث الإمام موسى الصدر الغني عن نهائية الكيان والوطنية اللبنانية، ليؤكدوا تثبيت محورية الكيان بالنسبة للشيعة اللبنانيين، لا بل يرفعوه إلى تعبير “صوفي” عن الإيمان بلبنان يتجاوز حتى تثبيت صورة الكيان اللبناني كما أنجزه الرحابنة ورسخوه في المخيال الجماعي اللبناني.
على أن السؤال الشيعي يتجاوز مسألة النقاش حول العلاقة مع الفاتيكان والغرف من خلاصاته ومقرراته خاصة بالنسبة للعدالة الإجتماعية، إلى كيفية اتخاذ القرار في الفاتيكان وآلياته، لكن من دون جواب واضح بسبب الإستطراد إلى الثوابت الفاتيكانية في مقاربة التحديات اللبنانية.
يقارب الحوار الشيّق والعميق جوانب متنوعة، في مدى قدرة اللبنانيين على حماية لبنان والحفاظ عليه، إلى دور الكنيسة في تطوير السينودس. الراعي يقر بالثغرات والأخطاء مع الإشارة إلى أدوار كنسية لا يمكن طمسها في التصدي للأزمة.
أسلئة العونيين الحاضرين تذهب إلى محاولة استكشاف نظرة الفاتيكان لتطوير النظام، والسؤال عن مدى مراقبة منسوب نقده لتقصير الكنيسة اللبنانية في مواجهة تداعيات الأزمة الإجتماعية والإقتصادية، وفي مواجهة المنظومة المصرفية. مجدداً يوازن الراعي بين استيعاب النقد والإقرار بالتقصير، والحديث عما فعلته الكنيسة وتوضيح مواقفها من المنظومة وخاصة أداتها المالية المتمثلة برياض سلامة، لتوسيع دائرة المسؤولية إلى الطبقة الحاكمة ككل.
يستطرد النقاش ويتعمق إلى استذكار محطات تاريخية وتأثيرات الجيوبوليتيك والصراعات الإستراتيجية على لبنان وطوائفه. يستذكر بعض المنظمين والحاضرين تجارب وخيبات أمل من العلاقة مع الغرب والإنجرار إلى تجارب كانت لها كلفتها القاسية والغالية.
وبين النقد والسعي للتعلم، هناك من يبقى في لبنان يحاور وينصت ويحاول شبك المساحات المشتركة بعضها ببعض. أهمية هذا النقاش أنه يواكب مرحلة تحديات وتحولات ستكون لها تأثيراتها البالغة على مستقبل لبنان وطوائفه الحائفة – المخيفة…
خاص “زحلة بوليتيكس” – كتب ميشال ن. أبو نجم