أكّد البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، في كنيسة الصّرح البطريركيّ في بكركي، “أنّ الزّواج الكنسيّ هو سرّ مقدّس (sacrement) من أسرار الكنيسة السّبعة وهو تأسيس إلهيّ يحمل نعمة إلهيّة. أمّا الزّواج المدنيّ فهو عقد اجتماعيّ لا علاقة له لا بالأسرار المقدّسة ولا بالله ولا بالرّوح القدس. وأنا كمسيحيّ، باعتمادي الزّواج المدنيّ أضع الله جانبًا، لأنّني قرّرت تحويل هذا السّرّ المقدّس إلى مجرّد عقد اجتماعيّ.”
كلام الرّاعي جاء في معرض حديثه عن موضوع الزّواج المدنيّ في حلقة التّنشئة المسيحيّة الأسبوعّية على شاشة تيلي لوميار، فقال:” مع انطلاق الكنيسة لم يكن هنالك سوى الزّواج الكنسيّ، ثمّ مع تطوّر المجتمعات ودخول العلمنة ووجود الملحدين وغيرهم برز الزّواج المدنيّ وهما يلتقيان في أمرين: أهليّة طالبي الزّواج، بحيث لا توجد موانع، والرّضى الزّوجيّ السّليم على صعيد العقل والإرادة والحرّيّة. ولكنّهما يختلفان في الصّيغة القانونيّة لتبادل الرّضى الذي يتمّ في الزّواج الكنسيّ، أمام كاهن يبارك وشاهدَين ضمن رتبة طقسيّة، وهنا يتمّ السّرّ المقدّس. أمّا الزّواج المدنيّ فيتمّ أمام موظّف الأحوال الشّخصيّة وشاهدين، وهنا ينتفي السّرّ.
إنّ المسيحيّ ملتزم بالأسرار السّبعة، وهي المعموديّة والميرون والقربان والتّوبة ومسحة المرضى والكهنوت والزّواج، ولا يمكنه انتقاء ما يعجبه منها. لذلك كمسيحيّين علينا الالتزام بها كاملة. وأنا كمسيحيّ لا يمكن أن يكون زواجي مدنيًّا وإلّا أانا أكون في حالة خطيئة ضدّ السّرّ. أيّ أنّني أُخطىء ضدّ الله الذي أسّس سرّ الزّواج. وهذا أمر مخالف للإرادة الإلهيّة وبالنّتيجة لا يحقّ لي أن أتناول جسد الرّبّ ودمه تمامًا كوضع الإنسان الذي يكون في حالة خطيئة جسيمة هو أيضًا لا يمكنه تناول جسد المسيح ودمه لأنّها إهانة وبالتّالي لا يمكنني التّقدم من المناولة.”
وتابع:” نعم الزّواج المدنيّ هو خطيئة ضدّ السّرّ ولكنّه ليس مساكنة وليس حالة زنى إنّما هو عقد مدنيّ خطيئته أنّه ضدّ السّرّ المقدّس. والكنيسة بلسان القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني تعلّم: “غالًبا ما يتأتّى أن يفضّل الكاثوليك عقد زواج مدنيّ فقط إو إرجاء الزّواج الدّينيّ إلى ما بعد على الأقلّ وذلك بدافع من أسباب عقائديّة أو عمليّة. فلا يمكن مساواة وضعهم بوضع من يتساكنون بدون أيّ ميثاق زوجيّ. ذلك أنّ لديهم على الأقلّ قصدًا في اتّباع نمط حياة محدّد ومستقرّ على الأرجح ولو بقي لديهم على الغالب مجالًا لطلاق محتمل. لكّن الكنيسة لا يمكنها أن تسلّم بهذا الوضع فتسعى إلى إفهام الزّوجين واجب التّوفيق بين ما اختاراه من حياة وما يعترفان به من إيمان. وتبذل الكنيسة ما بوسعها ليعمل أمثال هؤلاء الأزواج على تصحيح وضعهم وفقًا للمبادئ المسيحيّة أيّ بعقد زواج كنسيّ. وبالرّغم ممّا يعاملهم به رعاة الكنيسة من محبّة بالغة ويحثّوهم على الاشتراك في حياة جماعتهم الكنسيّة فلا يجوز ويا للأسف أن يسمح لهم باقتبال الأسرار. (الإرشاد الرسوليّ: في وظائف العائلة المسيحيّة، 95 ).
في لبنان اليوم يغنّون أغنية الزّواج المدنيّ، فما هو المطلوب؟ أوّلًا تعديل المادّة 9 من الدّستور التي تقول إنّ الدّولة اللّبنانيّة بعد الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان وتقر بقوانين أحوالها الشّخصيّة، وهذه تتضمّن قضايا الزّواج ومفاعيله المدنيّة. الدّولة تقول إنّها تقرّ بقوانين الطوائف، ثمّ تقول بإقرار الزّواج المدنيّ. في هذه الحالة يجب على الدّولة أن تعدّل المادّة 9 من الدّستور، ولتعديلها- كما تنصّ المادّة 65 من الدّستور – تحتاج إلى التّوافق واذا اقتضى الأمر التّصويت بثلثي الأصوات قبل إرساله إلى المجلس النّيابيّ.”
لماذا تعديل الدّستور صعب في هذا الخصوص؟ ولماذا صعب التّوافق؟
إنّ أخواننا المسلمين أعلنوا منذ 1936 وفي سنة 1998 وبالمس، أنّهم يرفضون الزّواج المدنيّ بالمطلق فكيف يمكن التّوافق على اقراره؟ في العام 1936 في عهد الانتداب الفرنسيّ، أقرّ المفوّض السّاميّ قانون 60 ل. ر. القائل إنّه إذا عقد اللّبنانيّون زواجًا مدنيًّا خارج لبنان، فالدّولة اللّبنانيّة تعترف به. هذا القانون لا يزال ساريًا حتّى اليوم، ويخضع عقد الزّواج لأحكام قوانين الدّولة التي عقد فيها. إعترض المسلمون فاضطرّ المندوب السّاميّ سنة 1939 أيّ بعد 3 سنوات إلى إصدار قانون آخر يقول فيه إنّ قانون الـ60 لا يطبّق على المسلمين وحتّى اليوم لا يقبل المسلمون بالزّواج المدنيّ في لبنان أينما عقد.
في عهد المغفور له الرّئيس الياس الهراوي الذي قدّم مشروع قانون الزّواج المدنيّ، أعلن المسلمون موقفهم الرّافض بالمطلق. وبالأمس جدّدوا موقفهم هذا من دار الفتوى، إذا لا مجال للتّوافق.
وفي كلّ حال الزّواج المدنيّ يقتضي تعديل المادّة 9 من الدّستور فلا يحقّ للدّولة تحريض المؤمنين والقول لهم يمكنكم التّقيّد بالدّستور كما يمكنكم عدم التّقيّد به، وليس بامكانها أن تقول: أنا كدولة يمكنني التّقيّد بالمادّة 9 كما يمكنني مخالفتها. إنّه كلام غير منطقّي. أمّا مشروع الزّواج الاختياريّ الذي طرحوه فهو أيضًا يحتاج إلى تعديل المادّة 9 من الدّستور. نحن نرفض الزّواج الاختياريّ ونقول إنّها لعبة لأنّ فريقًا كبيرًا في لبنان رفض الزّواج المدنيّ الإلزاميّ لذلك طرح الاختياريّ لشقّ المسيحيّين لأنّه يفرّق بين اللّبنانيّين. ثمّ، هل يحقّ للدّولة أن تخيّر المسيحيّ بين اتّباع شريعة دينه أو مخالفتها؟ هل لدى الدّولة سلطة للّعب بضمائر المؤمنين. هذا أمر خطير جدًا. لقد قلنا لهم أعطونا قانونًا واحدًا في العالم يكون اختياريًّا فالقانون بطبيعته إلزاميّ. تعلّمنا منذ دراستنا للحقوق أنّ ميزة القانون إلزاميّة. هل تستطيع المدرسة السّماح بمخالفة قوانينها، وتخيّر الطّلاب بين التّقيّد بها ومخالفتها؟ وهل يقبل أيّ حزب أن يخالف المنتمون إليه قوانينه؟ لماذا الدّين وحده خاضع للخيار، وهل يحقّ التّلاعب بالضّمير والقيم الرّوحيّة؟
لقد أعربت عن رأيي في القصر الجمهوريّ – تابع البطريرك الرّاعي- وقلت إنّه إذا أرادت الدّولة إقرار القانون فليكن إلزاميًّا ولتبدأ العمل بتعديل المادّة 9 من الدّستور. فعندما يكون القانون إلزاميًّا يمكننا الطّلب إلى الميسحيّ بتصحيح وضعه وعقد زواج كنسيّ، فإمّا يرفض إيمانه والالتزام به، وإمّا يصحّح وضعه، وعندئذ تعرف المؤمن من غير المؤمن. ولكن في حال الزّواج المدنيّ الاختياريّ، يصعب جدًا إجراء هذا الطّلب.
وإختّم قائلًا: “لقد قلنا لهم ثمّة من جحد دينه فلا يمكننا منحه سرّ الزّواج ، وإلاّ كان الزّواج باطلًا. أمثال هؤلاء بحاجة إلى زواج مدنيّ. ماذا نقول لهم؟ إذهبوا إلى قبرص؟ الموضوع على هذا القدر من الخطورة. فليتفضّلوا في المجتمع اللّبنانيّ ويتعمّقوا فيه أكثر، وليكفّوا عن التّحدّث بسطحيّة لا تدلّ إلّا على جهل مدقع. يؤلمنا أن نسمع من نعتبرهم مثقّفين يتكلّمون بطريقة خالية من الموضوعيّة والمعرفة، ويختمون حديثهم بأنّ رجال الدّين ضدّ الزّواج المدنيّ لأنّ الزّواج الكنسيّ يدرّ عليهم الأموال ويؤمّن لهم الهيمنة. هذا أمر معيب تمامًا فالموضوع أكبر وأخطر ويجب عدم التّلاعب بالشّؤون الإيمانيّة أو ليعلن كلّ واحد عدم التزامه بأيّ دين.”
نور نيوز