كتب الياس الترك في آسي مينا
ضمن سلسلة مقابلات حول الوضع العام في لبنان، سألنا الدكتور ناجي قزيلي حول لبنان والفاتيكان وحول نظرة الفاتيكان إلى لبنان. دكتور ناجي قزيلي خبير في شؤون الكرسي الرسولي وأستاذ محاضر في جامعة الروح القدس الكسليك والجامعة الأنطونيّة. له عدّة كتابات حول الباباوين يوحنّا بولس الثاني وبندكتس السّادس عشر في علاقتهما مع لبنان. يعمل في الوقت الحالي أيضًا على كتابٍ جديد حول نصوص البابا بندكتس السّادس عشر عن لبنان. نذكر أنّ لبنان كان يحضّر لزيارة البابا فرنسيس في حزيران المقبل، لكن قد تمّ تأجيل الزيارة لأسبابٍ صحيّة. السؤال الأوّل: شكرًا دكتور ناجي قزيلي على هذه المقابلة. في السؤال الأوّل أرغب أن أسأل حضرتك عن البابا فرنسيس ولبنان. لماذا خصّص ويخصّص العديد من المبادرات الرجائيّة، إن صحّ التعبير، للبنان؟ ما الذي يريده البابا للبنان؟بالواقع البابا فرنسيس هو حبر أعظم آتٍ من الأرجنتين وهي منطقة بعيدة جدًّا عن لبنان ولم يكن على إطّلاع على الواقع اللبناني ولا على واقع منطقة الشرق الأوسط عندما وصل إلى السدّة البطرسيّة. ولكن من هنا كان إهتمامه أوّلًا بالمسيحيّين في منطقة الشرق الأوسط الذين يتعرّضون لإبادة مبرمجة منذ فترة طويلة. وقد أتت الحروب المتتالية بمنطقة الشرق الأوسط لتسرّع عمليّة إبادة المسيحيّين. من هنا، كان اهتمام البابا فرنسيس بمسيحيّي الشرق الأوسط. ولكن عندما تأزّم الوضع في لبنان على مختلف الصعد الاقتصاديّة والسياسيّة وتبع ذلك الانفجار الهائل في بيروت. خصّص البابا اهتمامًا كبيرًا للبنان. هذا الاهتمام لم يكن مفاجئًا لأنّ الكرسي الرسولي كان دائمًا يُعطي أولويّة لعلاقاته في منطقة الشرق الأوسط مع لبنان وأتى البابا فرنسيس ليعيد مواصلة هذا الاهتمام بلبنان. مبادرات البابا بالواقع، كما تقول، هي مبادرات رجائيّة، كانت تحمل دائمًا الرجاء. والدليل الأبرز هو يوم الصلاة الذي خصّصه للبنان. وربّما عبر تاريخ الكرسي الرسولي، لم يخصّص الكرسي الرسولي يومًا كاملًا للصلاة من أجل بلد وبالتحديد بلد بالكاد يظهر على خريطة العالم أو في العلاقات الدوليّة. لكن جنّد البابا كلّ أجهزة الكرسيّ الرسولي في ذلك اليوم لبعث رسالة رجاء تحت شعار جملة أو فكرة الفيلسوف والكاتب اللبناني الكبير جبران خليل جبران: «بعد الليل هنالك دائمًا النهار، هنالك دائمًا الصبح».دائمًا ما نفكّر أنّ الرجاء هو وعد بأمل ما. كلّا، الرجاء ليس وعدًا بأمل ما، الرجاء هو حقيقة، حقيقة إيمانيّة كبرى تساهم في تبدّل الأمور. لا أستطيع، بحسب نظرة البابا فرنسيس التي يستمدّها من البابا يوحنّا بولس الثاني والإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان»، إعادة إحياء وطن يعاني من هذا الكمّ من الأزمات وهو مفكّك. والبعض يقول أنّ لبنان في طريق الزوال والبعض الآخر يقول أنّه زال والبعض يصفه أنّه ميّت. لا نستطيع بناءه وإحياءه دون هذه القوّة الكبرى التي يمثّلها الرجاء الذي يعني الإيمان العميق، الاستسلام الكامل لله الذي هو إله القيامة. نحن لسنا أبناء الموت، هذا ما يطلبه منّا البابا فرنسيس ويذكّرنا به: «أنتم أوّلًا كمسيحيّين وثانيًا كلبنانيّين أيّ مسيحيّين ومسلمين، لستم أبناء الموت. لا يمكن أن تكون الكلمة الأخيرة للموت بل للحياة». اذًا هذا الرجاء لا يستند إلى وهم، بل يستند إلى شخص يسوع المسيح القائم من الموت، المنتصر على الموت، برسالة الحياة. رسالة الحياة هذه قد ترجمها البابا فرنسيس مرّات عدّة. ما الذي يريده البابا للبنان؟ يريد للبنان أن يكون قويًّا بأبنائه. من الممكن أن يتمّ القضاء على كلّ شيء، من الممكن أن ينهار البناء، من الممكن أن تنهار بعض الأمور السياسيّة، من الممكن لبعض التوقّعات الاجتماعيّة ألّا تصحّ. لكن، إن كان الإيمان عميقًا لا يمكن لأحد أن يوثّر به، هذه نظرة الكنيسة ككلّ ونظرة البابا فرنسيس تحديدًا. الإيمان أوّلًا بلبنان الوطن يجب أن يستمرّ ويبقى قادرًا على الحياة، هذه نظرة البابا والكنيسة. وثانيًا أن يبقى لبنان قائمًا بهويّته، هذا ما يريده تحديدًا البابا فرنسيس وما يخاف عليه. يخاف أن تتبدّل هويّة لبنان. ما هي هويّة لبنان الحضاريّة؟ هي أنّ لبنان وطن للمسيحيّين والمسلمين يبنون فيه حضارة مشتركة. هذه قمة ما وصل إليه الكرسي الرسولي في تفكيره فيما خصّ لبنان. وهنا أودّ، بختام الإجابة، أن أشدّد على أنّ الكرسي الرسولي لا ينظر إلى لبنان على أنّه مختبر. المختبر هو مكان تتمّ فيه إختبارات، تتمّ فيه أبحاث على كائنات حيّة لكن ليس على البشر. الكرسي الرسولي لا ينظر إلى لبنان على أنّه مختبر لكن على أنّه قيمة حضاريّة. هذه الكلمة تحديدًا قالها البابا يوحنّا بولس الثاني ولا تزال قائمة إلى اليوم. وكرّرها البابا فرنسيس أكثر من مرّة، في التركيز على هويّة لبنان. وإن كان من خشية اليوم لدى الكرسي الرسولي، هذه الخشية ليست منذ أيّام البابا فرنسيس، فهي تعود إلى البابا يوحنّا بولس الثاني عندما قال في رسالة إلى جميع أساقفة العالم في 7 أيلول 1989: «اذا لا قدّر الله زال لبنان، هذا الأمر سيكون أكبر تبكيت وأكبر ندم بتاريخ البشريّة». السؤال الثاني: ذكرت أنّ الكرسي الرسولي لا ينظر إلى لبنان على أنّه مختبر بل قيمة حضاريّة. في 25 حزيران 2021، خلال المؤتمر الصحفي الفاتيكاني التحضيري للقاء 1 تمّوز 2021، الذي استقبل البابا فيه بطاركة وممثلي الكنائس في لبنان ليوم تفكير وصلاة في الفاتيكان من أجل لبنان، سُئل المونسنيور بول غالاغر، سكريتير الفاتيكان للعلاقات مع الدول، لما لا يقوم الفاتيكان بمبادرة شبيهة لهونغ كونغ وقد كانت هونغ كونغ يومها بأزمة. فأجاب: «إنّنا بالتأكيد مهتمّون لهونغ كونغ. لبنان مكان نجد فيه إمكانيّة تقديم مساهمة. لا نرى هذه الإمكانيّة في هونغ كونغ». من وجهة نظر حضرتك، كخبير في العلاقات بين لبنان والفاتيكان، ماذا بإمكان الفاتيكان اليوم تقديمه للبنان أو مساعدة لبنان فيه بينما لا يستطيع فعله في أماكن أخرى من العالم؟ في السؤال كثير من العمق وتحديدًا ماذا يمكن أن يقدّم الكرسي الرسولي للبنان؟ يمكن للكرسي الرسولي الذي هو أكبر مرجعيّة روحيّة، هو الضمير وصوت الضمير في عالم اليوم الذي يفتقد إلى الإصغاء وإلى الضمير، وجميع الصراعات في العالم اليوم ناجمة عن هذا الأمر. ليس هنالك من إصغاء إلى صوت الضمير، ونشكر الله أنّه لا يزال هنالك الكرسي الرسولي في العالم وتحديدًا الحبر الأعظم وأكثر تحديدًا البابا فرنسيس الذي يذكّر الإنسانيّة والبشريّة والعالم بأنّه لا يمكن الاستمرار في منطق الإلغاء، إلغاء الآخر المختلف، لا يمكن الاستمرار في منطق العداوات، في منطق تغذية الأحقاد، لا يمكن الاستمرار بمنطق التدمير الممنهج للثقافات والحضارات المختلفة. كلّ هذه يقدّمها الفاتيكان للبنان.لبنان دولة صغيرة على المستوى العالمي ومستوى العلاقات الدوليّة. عبر كلّ تاريخنا، عرفنا أنّ لبنان كان محطّ أطماع لدول مجاورة أكبر منه وهي لا تزال إلى اليوم تحاول إلغاءه والسيطرة عليه وجعله تابعًا أو متبوعًا لمحور أو محاور متصارعة. ويدفع الشعب اللبناني اليوم ثمن هذه التوجّهات كلّها.الكرسي الرسولي «يحمي» لبنان، «يحمي» هذا الكنز كما يدعوه البابا بندكتس السادس عشر (لبنان هو كنز للبشريّة). «يحميه» أي يقول أنّ الدول الصغرى الشبيهة بلبنان لها أهميّتها ويجب الحفاظ عليها. ثانيًا يؤكّد على عظمة لبنان، على الرغم من صغر مساحته الجغرافيّة. فهو يمثّل نموذجًا لعالم متصالح مع ذاته على الرغم من الصعاب، يستطيع فيه كلّ إنسان، مختلف عن الآخر، ليس أن «يتعايش»، إذ إنّ كلمة «يتعايش» لا يستخدمها الكرسي الرسولي، بل يستخدم كلمة «أن يعيش معًا» مع الآخر المختلف ويبني حضارة مشتركة. ومن هنا أهميّة إصرار الكرسي الرسولي، الذي ليست لديه أيّ مصلحة سياسيّة، فليس لديه ناخبين وليس لديه مرشّحين وليس لديه أطماع اقتصاديّة في لبنان.