كتب الدكتور سامر حنقير في موقع نداء الوطن بتاريخ 9 شباط 2022
ثابتٌ في المسيح الذي هو الرأس، واقفٌ بِمَهابَةٍ على صخرةٍ لا تتَزَعزع وهو مُتّشِح بالبَطرشيل الكهنوتيّ فوقَ ثَوبِهِ الرهبانيّ.
هذا هو القدّيس مارون حاملٌ بِيُمناه عصا الرعاية التي تحمي دون أن تَخنُق، وتَرأف دون أن تُفسِد، لا كتلك العصا التي تبطش وتَتَسَلّط علينا في هذا الشرق.
قليلةٌ هي الأخبار المُوَثّقة التي وصلتنا عنه، تَمامًا كالكثير من قصص العشق الإلهيّ التي اندثَر قسم كبير منها، ولم يبقَ من سُطورها إلا بِضع كلمات تُتلى على مَسامعنا وهي أشبَه بِنَسَماتٍ تلفَحنا بنعومة، فَيستَيقظ الله النائمُ فينا !
شخصيّة القدّيس مارون الصلبة وانتفاضة تلك الجماعة التي انجذبَت إليه فَتَكَوّنَت حوله على الظروف السياسية والاجتماعية الصعبة التي دفعتها إلى إثباتِ حضورها بكل جُرأة مِن خلال الانتظام ضمن الكنيسة المارونيّة تَقُودنا الى الاستنتاج بأنّ المارونيّة في جوهرها روحانيّة وليست مجرد «طائفة» مُكَبّلة بالعصبيّات الاجتماعية والقَبَليّة، يعتنقها كل مَن تَماهى مع قِيَمها وصارَ جُزءًا منها.
وفي مُحيطٍ لا يعترف إلا بالأحاديّات ويخشى كل أشكال التعدّديّات، تَجَلّت الروحانيّة المارونيّة من خلال قُدرتها على مُصالحة المُتَناقِضات وَجَمعها بطريقةٍ فَذّة، بل وعلى الإشراق مِن خلالها، وهذه عيّنة منها:
تَعبَّدَ القدّيس مارون للإله الواحد على قمم الجبال مُختَلِيًا بربّه، ولكنه في الوقت عينه كان ينزل من صومعته الصامتة لِيَستقبل زُوّاره ويُرشدهم ويُضمّد جراحهم «حتى ذاعَ صيتُهُ في الآفاق كلها، وَتَقاطر إليه الناس من كل ناحية» بحسب شَهادة أسقُف قوروش الذي وصف مار مارون بأنه «زينة القدّيسين» لشدّة اتحاده بالمسيح. وبذلك، يكون مار مارون قد صالح في شخصه بين حياة الزُهد والعزلة عن العالم من جهة، وبين الاختلاط بالناس والتفاعل معهم من جهةٍ أخرى. فَجسّد بِسُلوكِهِ ما قاله السيّد المسيح لنا: «أنتم من العالم ولستُم من العالم».
كذلك هي الكنيسة المارونية، فبالرغم مِن كَونها كنيسة رهبانيّة تحمل اسمَ راهبٍ لم يَسعَ يومًا إلى تأسيس طائفة، ولم يكن له هدف في الحياة إلا يسوع، ولا شيء إلا يسوع، إلا أنها وجدت نفسها مُنغَمسة في مسيرة زَمنيّة مُضنية للحفاظ على الحُضور في شرقٍ لا يتغذّى المُتَسَلّطون عليه إلا بِدَم الشعوب وفي عالمٍ لا يحترم إلا مَن يمتلك الموارد والقوّة ولا يُقيمُ حسابا إلا لِمَن يقرع طبول الحروب!
ورغم الارتباط الوثيق للكنيسة المارونيّة بالكيان اللبناني الذي هو بالنسبة إليها واحةً للحرية، الأمر الذي جعلها سياديّةً بامتياز، إلا أنها لم تكُن يومًا كنيسةً قوميّة مُغلقَة بِقَدر ما حملت رسالةً روحيّة مُهيّأةً لِتصل الى العالم، فجمعت بذلك بين حُبّ الأرض والشعور بالانتماء وبين التَسامي بالنظر والإحساس إلى ما هو فوق الأرض، إلى مَن هو في السماء.
وإلى جانِب جذورها السريانيّة التي تتمسّك بها، تفاعلت الكنيسة المارونيّة مع الثقافة الغربيّة بحماسٍ كَبير، فأخذَت منها وأعطتها من خلال المدرسة المارونيّة في روما، ونشاط حركة الترجمة، واستقطاب الإرساليات والرهبانيّات العالميّة بمدارسها وجامعاتها وآدابها وعلومها، ومن خلال الاتحاد الروحي الدائم بالكرسيّ الرسوليّ في الفاتيكان، وانتشار أديارها ورعاياها في العالم. فَساهمَت بذلك في تكوين الشخصيّة اللبنانية الأمينَة لإرث المَشرق العريق والمُتأثّرة بثقافة الغرب الأنيق. وفي هذا الجانب بالتحديد لها فَضلٌ كبير في جعل لبنان بالفعل مُلتقى الشرق والغرب، وفي تحقيق مَكانَة مَرمُوقَة بين الأُمَم قَبلَ اندلاع الحرب في العام 1975 والتي شَكّلَت انقلاباً دمَويّاً على «الحلم اللبناني» الذي كان لا يزال قَيد التحقيق بِحُجّة «إصلاح النظام»، وَاقتلاع «الانعزال»، وها نحن نُعاينُ اليوم نتائج ذلك «الإصلاح» الذي أراده «الإصلاحيّون» ونحصد ثِمار «التقدّم والانفتاح» الذي زرعه «التَقَدّميّون»!!!
وكجزءٍ من ارتباطها بهذا الشرق، لعبت الكنيسة المارونيّة دوراً رياديّاً في إحياء النهضة العربيّة في زمن الاحتلال العثماني لغةً وأدباً وَشِعراً ومسرحاً ومدرسةً وصحافَةً، لكنها نَأَت بنفسها عن أحلامِ الانصهار الكبيرة الضائعة بين أفكارٍ قوميّة وأخرى أصوليّة، فَبقِيَت مُنفَتحة على المُحيط العربي من دون ذَوَبان أو تَزَلُّف أو ذِمّية. فأثبتَت أنّ الأخُوّة بين أبناء الأرضِ المُشتركة لا تقوم على دينٍ أو قوميّةٍ أو عِرق، بل على التفاعل، والتآلُف، والتَثَاقُف بعيداً عن العقائد الشُموليّة الجامدة التي لا تحتمل حقّ الاختلاف ولا تتقبّل التعدّدية بالفكر والانتماء. ولعلّ مَن رفَضَ تلك الفكرة التي ناضلت الكنيسة المارونيّة من أجلها والتي تقوم على أساس وجود كيانٍ مستقل ودولة لبنانية قائمة بحد ذاتها لا ينتمي اللبنانيون إلا لها ولا يعملون إلا من أجل مصلحتها باتُوا اليوم، على ضوء التطورات السياسية والأمنيّة المُستَجدّة، أولى ضحايا رفضهم التاريخي لها !
والكنيسة المارونية الحريصة جدا على الحضور المسيحي الفاعل لم تتصرّف كجماعة غير معنيّةٍ إلا بنفسها رغم الشوائب في العلاقات بين اللبنانيين لأنّ التعصّب هو نَقيضُ رسالتها. ويكفي أن نتذكّر البطريرك الماروني بولس مَسعد حين ناشد السلطان العثماني لإعفاء المُسلمين في لبنان من الخدمة العسكرية التي كانت تستنزف رِجالهُم أسوةً بالمسيحيين، حتى باتَ يُنظَر الى البطريركيّة المارونيّة على أنها مَلاذٌ لجميع اللبنانيين. وقد بادل الخَيّرون من المُسلمين البطريركيّة المارونيّة بالتقدير والاحترام. ومن التاريخ الحديث، جاهد البطريرك مار نصر الله بطرس صفير مِن أجل سيادة لبنان ودفَع بكل صبر ومُثابرة باتجاه توسيع دائرة النضال لتشمل المسلمين إضافةً الى المسيحيين في معركة استعادة الحرية. وحين كان يجنح البعض منا باتجاه الانغلاق كان يُذكّره بجوهر الرسالة المسيحية وبأهميّة التعدّدية، وحين كان ينحرف البعض الآخَر باتجاه السيطرة العدديّة وتهميش المسيحيين، كان يخرج عن صمته ليُنادي بالحرية ويُذكّر مَن يعنيه الأمر بأننا «إن خَيَّرونا بين العيش المُشترك والحرية، لاختَرنا الحريّة». فأقامَ البطريرك الماروني بذلك تَوازُنًا دقيقًا بين المفاهيم والقِيَم وجعلَها مُتَكاملة بدل أن تبقى مُتضاربة.
كل ما تَقَدّم، يُفَسّر، وَلَو قليلاً، طموح مُفَكّري المَوارنة لبناء هويّة لبنانيّة أساسُها «لبنان اللبناني» تجتمع فيها كل التَراكُمات الحضاريّة التاريخيّة بمختلف يَنابيعها، ويجد فيها كل إنسانٍ مَكانًا له، وإن كان يَعتَبِر نفسه مُتَحدّراً مِن أصولٍ مُعيّنة (كنعانيّة/فينيقيّة، أو عربيّة، أو سريانيّة، أو أرمنيّة، إلخ…)، أكانت مُتَطابقة أو مُتَمايزة عن سواه من المواطنين المُقيمين معه ضمن الوطن الواحد. والانفتاح على التطوّرات الثقافيّة، بالرغم من الافتخار بالينابيع والبِدايات، هو جُزءٌ مِن خصائص هذه الهويّة اللبنانية كما تَراها الكنيسة المارونيّة لأنّ الهويّة وإن كانت جُذورها مَتينَة إلا أنّ مسيرة بنائها وصقلها مستمرة على امتداد الزمن. فَبناء الهويّة، بعكس ما يعتقد غُلاةُ المُدافعين عنها مِن هنا وهناك مِن مُنطلقات سياسية، لا يقف عند حقَبة تاريخيّة مُعيّنَة ولا يتقوقع فيها، بل هي مَسار تَفاعليّ تَراكُميّ يَمخُر بِحار الأزمِنَة وإن كان له نقطة انطلاق مَرجعيّة يُعتَزّ بها.
والكنيسة المارونيّة التي وُلدت وتَحصّنَت في الأرياف تَمَدّدت بسلامٍ نحو المُدُن، فَسكَنَتها حتى صارت منها، فمَزَجَت بين ما كان يُوصَف بالتقليد وما صار لاحقًا يُعرف بالتحديث.
وأبناء الكنيسة المارونيّة الذين عاشوا في بيئةٍ زراعية بسيطة كانوا مِن أوائل الجماعات اللبنانية التي اختبرت الثورات على المفاهيم والمُمارسات السائدة، فتمرّدوا على الجهل واللامساواة مِن خلال المَجمَع اللبناني عام 1736 الذي كان أوّل مَن أقرّ إلزاميّة التعليم للجميع من دون تَفرقَة بين ذُكورٍ وإناث. وانتفضوا على الاستبداد والتمييز مِن خلال السعي لإسقاط الامتيازات الإقطاعيّة مع ثورة الفلاحين فاتحينَ بذلك الطريق أمام تحوّلاتٍ اجتماعية وسياسية جَذريّة كان يُمكن لولا العصبيّات الطائفيّة أن تكون وطنيّةً شاملة، سابقينَ بانتفاضتهم على المَوروثات التقليديّة بعض ثُوّار هذا الزمان.
كُلّما احتدمَ الصراع على الهويّة وتَمَّ تسخير هذا الصراع لغاياتٍ اقتصادية وسياسية، علينا أن نتذكّر مار مارون، ذلك الراهب الذي عاش في بيئةٍ مُضطربة مشحونة بالخلافات العقائدية والفلسفيّة والمذهبيّة. أما هو فَتبيّنَ مِن الشَهادات النادرة التي وصلتنا عنه أنّه نظر الى كل تلك المناقشات المُحتَدمة، فَوَجدها خالية مِن المحبّة ومُعبّأة بالكَراهية، فانسحب منها، ليس مِن باب اللامبالاة، بل لأنه أراد أن يعود الى اليُنبوع الذي تخرج منه الحياة. وهكذا عاش مارون بسلام، وماتَ بسلام لِتُخَلَّد ذِكراه على مدى الأزمان.
وأما نحن اليوم الذين نعيش في قلب هذا الجَفاف الروحي، والقحط الفكري، والبُخل المادي، والطمَع السُلطَويّ، والارتهان الاختياريّ، والوَهن السياسي والعجز الإرادي، والخَوف المَرَضيّ، لا بُدّ أن يهبّ الروح فينا من جديد. ألم يَقُل يسوع أنّ الروح يَهُبّ حيثُ يشاء؟ لقد هَبَّ ذاتَ يومٍ على مارون، ويوحنّا مارون، وعلى بَطاركةٍ قيلَ عنهم أنّ «عصيّهُم من خشب وقلوبهم من ذَهَب»، وعلى نُخَبٍ مِن المُفَكَرين المقدامين. وعندما يَهُبّ الروح سَنسمَع صوتَ يسوع. ومَن هذا الذي يقدر أن يُقَسّي قلبَهُ عندما يَسمَع صوتَه؟! مارون سَمِعَ ذلك الصوت فَتَبِعه، ومَن يتبع النُور لا يمشي في الظلام.