قال يسوع هذا المثل: “خرج الزارع ليزرع زرعه. وفيما هو يزرع سقط بعضٌ على الطريق فوُطئ وأكلته طيور السماء. والبعض وقع على الصخر فلمّا نبت يبس لأنّه لم تكن رطوبة. وبعضٌ سقط بين الشوك فنبت الشوك معه فخنقه. وبعضٌ سقط في الأرض الصالحة فلمّا نبت أثمر مائة ضعف”. ثمّ يشرح يسوع لتلاميذه ما قصده عبر هذا المثل، فقال لهم إنّ “الزرع هو كلمة الله” التي تثمر أو تموت وفق الأرض التي تُبذر فيها (لوقا 8، 5-16).
الكلمة الإلهيّة قد تموت، إذًا، إن لم تجد الأرض الصالحة التي تحتضنها في إحشائها، إذا لم تجد الإنسان الذي يسعى لأن يكون أرضًا صالحة لتقبّل الكلمة الإلهيّة والسلوك بمقتضياتها. رهن الله نفسه للإنسان وسلّمه أمر الكلمة الإلهيّة ليحييها إذا عمل بها، أو ليميتها إذا تقاعس عن تفعيلها.
يا لعظمة الله الكريم الذي سلّم كلمته، أي يسوع المسيح نفسه الذي هو “كلمة الله” وفق إنجيل يوحنّا، إلى البشر. غير أنّ البشر يقابلون هذا الكرم الإلهيّ، هذا الجود الإلهيّ، بالبخل والتقتير. مقابل الكرم الإلهيّ ثمّة البخل البشريّ. يسوع نفسه، الإله وفق الإيمان المسيحيّ، مات على الصليب في سبيل العالم، وهذا ذروة الجود، إذ ليس حبّ أعظم من هذا. أمّا الإنسان، مسيحيّ أم غير مسيحيّ، فلم يقابل هذا الجود بسوى البخل، فضنًّا بنفسه يرضى بأن يرى الناس تموت آلافًا وملايين في سبيل أن يبقى هو حيًّا. يا للبخل ما أدناه !
تروج راهنًا أيقونة مار جرجس، القدّيس الشهيد الذي قدّم حياته في سبيل الإيمان رافضًا تقديم الذبائح للأوثان الرومانيّة ولعبادة الإمبراطور. جرجس الفلسطينيّ اللداويّ كان ضابطًا في الجيش الرومانيّ تخلّى عن سلاحه طوعًا وسلّم نفسه لجلاّديه. كان باستطاعته أن يقاوم ويثور ضدّهم ويقتل بعضهم، لكنّه واجههم بالكلمة، بصدر عارٍ، وصار شهيدًا تذكره الكنيسة من جيل إلى جيل، إلى الأبد. فبربّكم! مَن الأكثر شجاعة، جرجس الحامل الرمح، أم جرجس الذي يتلقّى الرمح بصدر عار؟ المسيحيّة واضحة في هذا الشأن، الشجاع هو مَن يثبت على مبادئه، ولا يخونها وقت الشدّة. آه يا مار جرجس، لو ترى، وأنت ترى! أين أصبح الذين يشوّهون رسالتك!
المسيحيّون يميتون الكلمة الإلهيّة حين تسمعهم يقولون إنّ الوقت الحالي ليس وقت عمل بالكلمة الإلهيّة. فكأنّ للكلمة أوقاتًا موافقة، وأوقاتًا غير موافقة، حسب المزاج اليوميّ. والكلمة، كما قلنا، هي يسوع. هم، إذًا، يميتون يسوع، يصلبونه ثانيةً وثالثةً… يغيّبونه عن العالم، حين يعطّلون كلمته بذرائع شتّى، بعلل الخطايا…
المسيحيّ مدعوّ إلى أن يكون كمعلّمه، كيسوع، لا أن يجعل معلّمه على صورته هو. لذلك، عليه أن يكون أرضًا صالحة، أرضًا نظيفة من الصخر والشوك. وهذا يتطلّب جهادًا من الإنسان في سبيل تنقية الذات من هموم هذا العالم الخانق. فلا أحد سوف يأتي لينظف أرض إنسان آخر. كلّ إنسان مسؤول عن إصلاح أرضه، عن إصلاح نفسه. فإذا لم يحطّم الصخر الذي فيه، ولم ينزع الشوك الذي فيه، لن يثمر ولن يكون فيه الخير لأحد.
ليبانون فايلز