كتب شارل جبور في موقع الجمهورية بتاريخ 7 شباط 2022
تتزاحم الأحداث والاستحقاقات في عيد “مار مارون” هذا العام، بدءاً من الاستحقاق النيابي وصولاً إلى الرئاسي، وما بينهما انهيار غير مسبوق في كل شيء وتحديداً في الدور اللبناني الذي كان للموارنة شرف المساهمة في بلورته وتجلّى في أبهى حلله في المرحلة الممتدة من قيام الدولة منتصف الأربعينات إلى انهيارها منتصف السبعينات.
عُرِفت الحقبة الذهبية للبنان بـ”سويسرا الشرق” مالياً و”المارونية السياسية” سياسياً، والتوصيف يعكس واقع الحال، إن لجهة الازدهار وطبيعة الحياة ونمط العيش، أو لناحية الفريق الذي تصدّر الواجهة السياسية آنذاك من دون ان يختزلها بطبيعة الحال، ولكن ما ينطبق على “المارونية السياسية” لا ينسحب على “السنية السياسية” التي عرفت أوجها في حقبة الشهيد رفيق الحريري، بسبب أن الأخير لم يكن ممسكاً بالقرار السياسي الذي كان في دمشق، ولكنها شكّلت بشقها الاقتصادي استمراراً لزمن “المارونية” من ناحية الإعمار والازدهار ونمط عيش، فيما شكلت “الشيعية السياسية” نقيضاً للتجربتين المارونية والسنية، والدليل انهيار لبنان على يدّ هذه الشيعية، وتبدُّل نمط عيش اللبنانيين، وعزلة لبنان عن الخارج.
وقد شكلت تجربة رفيق الحريري مع اتفاق الطائف استمراراً لتجربة رياض الصلح مع الميثاق اللبناني، مع فارق انّ الصلح تولى دوره في مرحلة صعود الموارنة، فيما الحريري تولى دوره في زمن انكفاء الموارنة بسبب الاحتلال السوري، والعبرة من ذلك تكمن في أوجه الشبه بين “المارونية السياسية” و”السنية السياسية” على مستويين أقله: المستوى الأول يتعلّق بدور لبنان الخارجي الذي عُرف بـ”الجسر” بين الشرق والغرب في زمن المارونية، وحاول الحريري الشهيد ان يحافظ على هذا الدور من خلال شبكة علاقاته العربية والغربية، والمستوى الثاني يرتبط بمحاولة الحريري إعادة لبنان إلى الزمن الجميل الذي عرفه البلد قبل الحرب.
ولو قدِّر لـ”الشيعية السياسية” التي ظهرت بداياتها مع الإمام موسى الصدر واستكملها الرئيس نبيه بري أن تشقّ طريقها من دون ولادة الثورة الإيرانية لَما اختلفت عن التجربتين المارونية والسنية لجهة الهوية والدور ونمط العيش، كونها إبنة هذه الأرض بتفاعلها وتعايشها وتجربتها، ولكن الثورة الإيرانية التي انبثق منها “حزب الله” في لبنان لا تشبه البلد وتجربته، كما لا تشبه اي بلد عربي تغلغلت فيه، وهذا ما يفسِّر وقوف الموارنة والسنّة والدول العربية ضد المشروع الإيراني في المنطقة.
ولا تختلف “الدرزية السياسية” عن “المارونية السياسية” و”السنّية السياسية”، لا بل تعتبر من رواد التجربة اللبنانية والحالة المؤسّسة للحالة اللبنانية بنمط عيشها وعلاقاتها الخارجية مع الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير، وهذا ما يفسِّر بدوره انّ العمود الفقري لانتفاضة الاستقلال ارتكز بغالبيته على المسيحيين والسنّة والدروز وتصميمهم على إعادة إحياء التجربة اللبنانية، والمشترك بين هذا الثلاثي هو “اللبنانية السياسية” في مواجهة ليس “الشيعية السياسية”، إنما “الإيرانية السياسية” كونها تجربة غريبة عن نمط عيش اللبنانيين بكل طوائفهم والشيعة في الطليعة.
والحروب والنزاعات التي عرفها لبنان كانت بفِعل تأثُّر الجماعات اللبنانية بالأفكار القومية والشيوعية والثورة الفلسطينية وانقسام العالم بين معسكرين وغيرها من العوامل طبعاً، ولم تكن قد نضجت او تبلورت بعد فكرة العولمة الإنسانية القائمة على رفاهية الإنسان وأمنه، والتي تشكّل النقيض للثورة الإيرانية التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل هذه العولمة وتشبه إلى حد كبير حقبة الحروب العالمية والعقائد التي برزت في تلك المرحلة.
والمواجهة اليوم هي بين “الإيرانية السياسية” ونقطة ارتكازها “حزب الله” وهي تضم من كل الطوائف اللبنانية وتحديدا الموارنة في ظل الحالة العونية التي تشكل خروجاً غير مسبوق في تاريخ هذه الطائفة عن الخط اللبناني ونقطة ارتكازه الدولة والسيادة والحياد ونمط العيش، بل تشكل انقلابا على تاريخ الموارنة ودورهم، وبالتالي المواجهة اليوم هي بين “الإيرانية السياسية” التي نشرت الفوضى في لبنان وقضت على كل ميزات البلد التفاضلية، و”اللبنانية السياسية” التي تريد إعادة البلد إلى الزمن اللبناني الجميل.
وتقوم “اللبنانية السياسية” التي تجمع الغالبية المسيحية والسنية والدرزية وشريحة واسعة شيعية على ثلاثة عناصر قوة أساسية:
العنصر الأول أنها اتّعظَت من تجارب الانقسامات والحروب والنزاعات ووصلت إلى قناعة ان التجربة اللبنانية لا تستقيم خارج الشراكة والتفاهم، وكل محاولة هيمنة واختزال ستقود إلى عدم استقرار والمتضرِّر منها الوطن والشعب، والمستفيد من النزاع الدول التي تريد إبقاء لبنان ساحة مستباحة.
العنصر الثاني ان هدفها الوصول إلى دولة لأن الجميع متضرِّر من تجربة العيش من دون دولة، والدولة في لبنان تعني سيادة ودستور وقانون ومساواة وشراكة وحرية وحياد واحترام للتعددية.
العنصر الثالث ان الجامع بين مكوناتها هو المشروع اللبناني على قاعدة أولوية الإنسان والاستقرار، بمعنى ان الصدارة هي للمشروع لا للفئة التي تحمله، خصوصا بعد تحوله إلى قناعة لدى غالبية اللبنانيين.
وعلى رغم ان هدف “المارونية السياسية” كان الوصول إلى “اللبنانية السياسية”، لأن المارونية هي نمط حياة، إلا ان هذه التجربة اصطدمت بظروف داخلية وخارجية حالت دون اكتمالها، ولا يكفي ان تكون التجربة رائدة لكي تعتمد وتتبع، إنما تحتاج إلى وصول الجميع إلى قناعة بضرورة ترجمتها على أرض الواقع، وهي أقرب ما تكون اليوم إلى الاكتمال بعد ان قادت “الإيرانية السياسية” لبنان إلى الهلاك والانهيار.
وأهمية عيد “مار مارون” هذا العام يكمن في خلاصتين واستحقاقين:
الخلاصة الأولى ان الخط الماروني اللبناني التاريخي القائم على الحرية والتعددية والدولة والسيادة والحياد انتصر على الخط العوني الذي أنهَك التجربة المارونية منذ نشأته، وأخذ الموارنة إلى تجربة لا تشبههم وبعيدة عن ثوابتهم في الاحتماء بميليشيا دمّرت نضالات الموارنة التاريخية في قيام دولة في لبنان.
الخلاصة الثانية ان التجربة اللبنانية يستحيل ان تستقيم وتستقر وتنجح خارج إطار دولة ومشروع سياسي يشكّل الرابط والمشترك بين اللبنانيين وهو “اللبنانية السياسية”.
أمّا الاستحقاق الأول فهو الانتخابات النيابية التي يجب ان تشكل فرزا بين من هم مع “اللبنانية السياسية” التي تريد إحياء “سويسرا الشرق”، ومن هم مع “الإيرانية السياسية” الذين يريدون إبقاء لبنان مساحة للفوضى والفلتان.
والاستحقاق الثاني هو الانتخابات الرئاسية التي يجب ان يستعيد من خلالها الموارنة دورهم، ليس في حروب صلاحيات ضمن مشروع “الإيرانية السياسية”، إنما دورهم في السهر على ترسيخ ركائز “اللبنانية السياسية”.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه