لا يمكن في مثل هذه الظروف المأساوية والدموية التي تمر بها أرضنا وشرقنا إلا أن نردد ما قاله قداسة البابا فرنسيس في زيارته الأخيرة الى متحف ياد فاشيم: “آدم، أينَ أنت؟” (سفر التكوين 3، 9) أين أنت، يا إنسان؟ أين أنت؟.
نعم. أين أنت يا إنسان من هذا الشرق الذي أصبح مستنقعا من الدم… والانسان لم يعد فيه إنسانا لم يعد يتصرف لا بحكمة ولا بأصول أخلاقية، ولم يعد يعترف فيه بقيمة الحوار ولا بأهمية اللقاء مع أخيه الانسان. إن العنجهية والكراهية والحسد جعلت الانسان على صورة قايين بدلا من أن تكون على صورة الله. وشتان ما بين الصورتين. صورة قايين ملطخة بالحسد وبالكراهية وبالدم، والدم لم يكن دم إنسان غريب بل دم أخيه وأقرب الناس اليه؛ بينما صورة الله المشرقة المُحبّة الكاملة قد تخلى عنها إنسان هذا الشرق الذي أعْمَت مطامعه وأحقاده بصره وخلخلت بصيرته، وأصبح يتصرف دون تفكير ولا منطق ولا اخلاق.
وهل تتحكم القوة وحدها في زمننا هذا بالعلاقات بين الشعوب والامم. وهل يتحكم بنا منطق الانسان الأول اي ان القوي يقتل الضعيف وشريعة الغاب هي السائدة بدلا من الالتزام بالقوانين التي تحفظ حقوق الجميع وتحميهم من اي اعتداء على كراماتهم. وهل في القرن الواحد والعشرين ما زال قول توماس هوبز ان “الانسان ذئب لاخيه الانسان” رأي صائب، اذ اننا نرى الانسان متربص لاخيه الانسان لينقضَّ عليه متى تسنح الفرصة له وذلك دون الاكتراث بأحد؟!!! يا للعجب!!! اين الحقوق والحريات والاخلاق والقيم؟ هل داست عليها الانانيات والعنتريات ومجموعات من البلطجية والزعران؟
وأما البقية الباقية في هذه الارض التي دنست الكراهية والأطماع والحروب قدسيتها تقف محتارة أمام ما يجري في شرقنا، شرق الحضارات والأنبياء والرسل، شرق يعيش عكس ما نادت وعلمت به الأديان، شرق أصبح فيه شبر من الأرض أهم من الانسان، وبتروله بدلا من ان يستغل لتطوير الدول ونهضة الشعوب اصبح وقودا تحترق به ومصدرا لشراء الاسلحة لقتل من هو مختلف عني.
إذا نظرنا الى الشمال نتوجع لما يحدث في سوريا من دمار للإنسان وللتاريخ، ومن مواقف تندى لها الجبين وتبكي عليها القلوب قبل العيون. وإن نظرنا شرقا فبدلا من أن نستمتع بشروق الشمس وبصوت البلبل الصداح، تلمع امام ناظرينا سيوف حاقدة ملطخة بدماء الأبرياء، ونسمع أزيز الرصاص ودوي المدافع. ومن الجنوب لا نرى إلا دخانا أسود وجثث نساء وشيوخ، وأشلاء رضّع وأطفال تطايرت هنا وهناك نجت من الحريق او من الدفن تحت ركام بيوتهم كما يحدث يوميا للعشرات بل للمئات من الغزاويين. ومن هناك لا نسمع إلا صوت الطائرات الحربية والمدافع والصواريخ، وإن هدأت للحظات نسمع عندها أنين الجرحى والمرضى، وبكاء وصراخ الامهات على ازواجهن واطفالهن وبيوتهن مرددات “حسبي الله ونعم الوكيل”.
وفي الجانب الاسرائيلي ما زال “الوسواسين الخناسين” وبالرغم من الدمار الكبير وموت العشرات من الجنود والمواطنين، يوسوسون في رؤوس متخذي القرار بضرورة الاستمرار في هذه الحرب القذرة، غير آبهين بموت الشباب وجرح العشرات منهم ولا بألم وحسرة أمهاتهم وعائلاتهم واولادهم، معتقدين أن الاستمرار في دمار غزة الفوقية وغزة التحتيّة سيجلب الهدوء والاستقرار للقرى والمدن الجنوبية ولإسرائيل بعامة.
بالطبع، هذا هو الخَرَف السياسي بعينه، وهذه هي الهلوسة التي تسيطر على عقل الكثيرين من متّخذي القرار. هم ونحن نعرف جيدا، أنها لم تكن هذه الجولة الأخيرة من الحرب والاقتتال مع الفلسطينيين إلّا اذا اقتنعت القيادة الاسرائيلية أن الأمن والاستقرار لا تحققه الدبابات ولا الطائرات ولا أي تكنولوجيا حربية، بل وحده السلام العادل الذي يكفل حقوق الجميع، ووحده قادر أن يكفل استمرارية الأمن والعيش بأمان. ومن المؤسف أن هناك من يعتقد أن قتل عدد كبير من حماس او من الجهاد الاسلامي أو من غيرهما من الفصائل الفلسطينية هو انجاز كبير، وآخرون ينادون بضرب رؤوس المقاومة بهدف ارباكها واضعافها إن لم يستطيعوا القضاء عليها نهائيا. هذه حسابات واهمة ومغلوطة وخارج منطق العقل، وبها تضليل للرأي العام الاسرائيلي والدولي لأن دماء كل شهيد سيدفع العشرات من اقاربه ومحبيه وأبناء شعبه الى صفوف المقاومة، وهذا ما كانت عليه نتيجة كل المواجهات السابقة ولا يجرؤ احد على انكارها. هذا لأن حماس والجهاد الاسلامي وغيرهما من الحركات الاسلامية لم تقم على مبادئ ايديولوجية فقط التي تتغير بتغير الزمن والسياق الموجودة فيه، إذ أن فكرها مستمد من ومرتكز على عقائد دينية، وعامل الايمان بالشكل الذي تفهمه يبقى أهم من أي شيء آخر عندها. لذا، نراها تدافع وتحارب من هذا المنطلق قبل المنطلقات الوطنية أو غيرها. وبكلمات أخرى، دفاعها عن حقوقها وعن وطنها وارضها يحركه إيمانها وليس فكر قومي او وطني. ومن هنا نقول إنه من المستحيل القضاء على هذه الحركات ما زال هناك من يتمسك بمثل هذه العقائد. ولكن يمكن إضعافها فقط بتحقيق العدل والسلام، وتوفير العدل الاجتماعي في جميع المجالات ومنها الخدماتية والصحية والتربوية كنتيجة لنمو اقتصادي واستقرار سياسي.
السلام العادل والدائم وحده ينتصر على الصواريخ وعلى طائرات ومدافع الاحتلال. السلام وحده يعطي الأمل والأمان والحياة، بينما آلات الحرب تسلب الحياة وتزيد من التطرف والكراهية. ومن أجل تحقيق هذا على الجميع التحرر من أنانيتهم ومن كراهية الآخر وأن يعملوا معا على بناء جسور من الثقة بين الشعبين ليحققوا معا العيش بسلام وكرامة.
وهنا يأتي دور التربية والخطاب السياسي والديني ووسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. فإن استخدمت من أجل العيش بسلام وبكرامة فستلعب دورا مهما في اعادة بناء الثقة بين أبناء الشعبين بالرغم من كل المآسي والويلات التي مرت عليهما وبشكل خاص على الشعب العربي الفلسطيني.
والأمر الآخر المقلق هو ما يحدث في سوريا وفي العراق. بالطبع التدمير الشامل للبلدين هو مساهمة مباشرة في تدمير الهوية العربية، إن لم يكن تنفيذ مدفوع الأجر لمؤامرة غربية وعربية لتقسيم الوطن إلى دويلات او الى امارات تتناحر فيما بينها وتروي أرضها بدم ابنائها، في الوقت الذي يستفيد فيه الآخرون من خيراتها وتبقى هي وشعوبها سوقا لأسلحتها ولصناعاتها. وهذا لا يمكن قبوله او السكوت عنه وأذكّر المتآمرين السعداء اليوم من دولنا العربية بالقول المأثور، على أمل ان يفهموه، ألا وهو “أُكلتُ يوم أُكلَ الثور الأبيض”.
وهنا اريد ان أركز على ما يتعرض اليه المسيحيون من اعتداءات وامتهانات لكراماتهم ولحرياتهم ولأماكنهم المقدسة من شِلل الزعران وقطّاع الطرق، الذين يسمون انفسهم يوما بنصرة الاسلام، ويوم بالقاعدة، ويوم باحرار المسلمين وآخرون بداعش، الخ من مثل هذه التسميات التي تجمع بين غالبية صفوفها مرتزقة من عشرات الجنسيات الغربية والعربية، همها أن تقتل اكثر لتكسب اكثر من مشغليها المستفيدين من حماقتهم احيانا ومن عوزهم المادي احيانا اخرى، او لأن بعضهم يجد في الانتماء الى مثل هذه المجموعات ملجأ له اذ يكون فارا من وجه العدالة في بلده، ومنهم لا معين له وآخرون لا مأوى لهم ولا من أين يأكلون ويشربون، فيسكن اليأس في قلوبهم ويختارون ما بين الموت من الجوع والبرد او في القتال مقابل فتات من الخبز وقليل من المال على رجاء أن ينعموا في آخرتهم في الجنّة مع الحور العين ويأكلون أطايب الطعام.
هؤلاء دمروا عشرات الكنائس والاديرة، وقتلوا مئات المسيحيين وهجروا مئات الآلاف منهم. امتهنوا واعتدوا على كرامة الراهبات والرهبان، والكهنة والمطارنة والبطاركة. حرقوا بيوت الناس ومدارسهم وحتى القبور لم تسلم من بربريتهم وهمجيتهم.
وآخر المطاف كان إعلان “دولة الاسلام في العراق والشام” ومبايعة ابو بكر البغدادي بالخلافة. ومن الاشياء المضحكة المبكية أن هذا ينسب نفسه الى الخليفة ابو بكر الصديق. والسؤال كيف يجوز لمثل هذا ان ينسب نفسه الى أبي بكر الصديق الذي اوصى جنوده قائلا: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمآكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له… وكيف تتماشى وصايا الخليفة ابو بكر او تسامح وصدق الخليفة عمر بن الخطاب مع هذا البغدادي الذي يقتل الاطفال المسيحيين في حلب والموصل وغيرهما من المدن والقرى المأهولة بالمسيحيين منذ الفي عام؛ ويدنّس أماكن عبادتهم، ويهجّرهم ويسرق بيوتهم وأموالهم ويمتهن كرامتهم ويقتل شيوخهم ونساءهم باسم الله وباسم الاسلام (كما يفهمه). وأي إله يؤمن به هذا؟ وعن أي اسلام يتكلم هو وشلّته في داعش وأخواتها؟ عن الاسلام الذي يقتل كل من اختلف عنهم، او عن الاسلام الذي علم “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”؟ وهل اسلامهم المعادي للمسيحيين هو نفس الاسلام الذي يعلم “ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبان وأنهم لا يستكبرون”؟ وهل اسلامهم الذي يريد أسلمة الآخرين بالقوة هو نفس الاسلام الذي علم ” لا اكراه في الدين”؟ وهل يتميز الاسلام بحمل السيوف وقطع الرؤوس ومعاداة الآخرين أم بالانفتاح عليهم ومحاورتهم كما علّم القرآن الكريم “ولا تجادلوا اهل الكتاب إلّا بالتي هي احسن”؟ لا والف لا. هم ليسوا من المسلمين… هم جماعة من قطاع الطرق، لهم برنامجهم السياسي ولهم اطماعهم ولهم من الاخلاق ما لا نجدها عند الحيوانات. وخلافتهم لا تمتّ بصلة الى الدين الحنيف، بل هي تخلّف ودونيّة في الاخلاق والكرامة.
هؤلاء يجب ان ننظر اليهم نظرة احتقار وان ننتبه لأمر هام، ألا وهو عدم تعميم صورتهم على المسلمين الآخرين الذين ذاقوا وما زالوا يذوقون الأمرين منهم. هدموا مساجدهم، وقتلوا ائمتهم وعلماءهم، وامتهنوا كرامة مقدساتهم، ونبشوا قبور اوليائهم، الخ من هذه القذارات والاهانات لكرامة الناس. لذا، نحن كمسيحيين وهم كمسلمين مستهدفون من هذه الجماعات المتطرفة والتي تلبس ثوب الدين كذبا.
ومن هنا اعتقد انه من الاهمية بمكان ان يكون التعاون بين المسيحيين والمسلمين اكثر بكثير مما كان عليه، حتى اليوم حتى لا تتسبب هذه الظاهرة في خرق صفوف وحدتنا وعيشنا الواحد. وحدتنا الوطنية كانت وما زالت صمام الامان لعيشنا ومشاركتنا التامة في بناء مجتمعاتنا وأوطاننا وستبقى حصنا منيعا امام كل من تسول له نفسه زرع بذور الزؤان في حقلنا.
ومن هذا المنطلق أناشد جميع القادة المسيحيين والمسلمين أن يكون خطابهم الديني خطابا يجمع ولا يفرق، خطابا يحافظ على وحدتنا لنبقى اقوياء امام التحديات الكثيرة التي تواجهنا هنا وفي وطننا العربي. وكلي أمل أن تكون مبادرة من القيادات الروحية والسياسية لعقد مؤتمرات أو لقاءات مسيحية إسلامية وبحضور رجال الدين المسيحيين وعلماء المسلمين في كل القرى والمدن المختلطة، ليؤكدوا للصغار وللكبار أن الجميع لا يستنكرون ما تقوم به “داعش” واخواتها فقط، بل يؤكدون معاً على رسالة الديانات السماوية التي تدعو الى احترام حرية وعقيدة ومقدسات الآخر بهدف ترسيخ اسس وحدتنا الوطنية وعيشنا الواحد اليوم والى الأبد.
أما الى جهة الغرب فلم أنظر، ولا انتظر منهم خيرا لشعبنا ولا لامتنا. فأنا أعرف كل الادوار القذرة والمؤامرات والانحياز الاعمى لأعداء الامة. وإن كانت الامور هكذا فلم يبق لنا إلا ان نعمل معا، مسلمين ومسيحيين، من أجل رأب الصدع وتوحيد الأمة ودون ذلك لن تقوم لنا قائمة.
وفي النهاية اتمنى على مسيحيي الشرق وبخاصة في سوريا والعراق ان يصمدوا في اوطانهم بالرغم من كل المآسي والصعوبات التي يواجهونها، وان لا يهرولوا الى السفارات الغربية التي وعدت بفتح ابوابها امامهم لاستقبالهم في دولهم، وذلك لأنهم هم اول من شجّع وموّل وسلّح هذه الجماعات التي تضطهدكم اليوم وتمتهن كرامتكم. كما وللشرفاء من المسلمين في هذه البلاد الدور الكبير في تضامنهم مع اخوتهم المسيحيين الذين عاشوا معا وقاوموا معا وعملوا معا لأكثر من الف وخمسمائة سنة على بناء الصرح الحضاري العربي، ان يضعوا ايديهم بيد اخوتهم المسيحيين ويعملوا معا من أجل التصدي لأسباب تهجيرهم. نعم، وكما يقول المثل الشعبي “اللي بياكل عصي مش زي اللي بعدها” ولكن ثقوا بالله وتسلحوا بإيمان قوي، ولا تدعوا هذه الشلل المأجورة، وزمر الزعران يبعدونكم عن أرضكم وأوطانكم، لأن هذا الشرق بدون حضوركم الفاعل واستمرار صوت اجراس كنائسكم مع آذان مساجد المسلمين تعزف حب الله والوطن، لن يَعُودَ يعني أي شيء لمن سيبقى من الشرفاء فيه.
الكاتب مدير مركز اللقاء للدراسات الدينية والتراثية في الأرض المقدسة – بيت لحم
عن أبونا