واقع الحياة العائليّة وتحدّياتها (3)
- ماديّة مخزية
يؤدّي الاستهلاك الفاحش إلى خلق ذهنيّة، التعلّق بالمادة، والخضوع لها، والتهافت عليها، وفي أكثر الأحيان، على حساب القيم والحياة الروحيّة، وعدم ممارسة الإيمان والابتعاد عن القيم الأخلاقيّة.
تزداد يومًا بعد يوم، تحدّيات العائلة. تهيمن النزعة الماديّة على قسم كبير من شرائح المجتمع. إنّ الاستهلاك المُفرط، أدّى إلى خللٍ في العلاقات الإنسانيّة، لطالما انطلق أفراد تلك الشرائح، يصرف وقته وقوّته وقيمه في سدّ حاجات متطلّبات الاستهلاك. لقد أضاعت بعض الشرائح روح البساطة والقناعة، ولَبَسَت وطُبعت بذهنيّة سطحيّة، تعتمد على المظاهر الخارجيّة. تؤدّي تلك التبدّلات والتحوّلات إلى غياب الأهل المستمرّ عن أولادهم، وإلى الاستقالة من دورهم التربويّ، ممّا ينعكس سلبًا على أفراد الأسرة الواحدة ولا سيّما على الشباب. يعتمد البعض في أدائه ونظرته للحياة اليوميّة، إلى التفلّت من الضوابط الأخلاقيّة والقانونيّة، والانغماس في عيشٍ رغدٍ، مبنيّ على الغشّ والفساد، والإدمان على الكحول والمخدّرات، ولعب الميسر. “تمّت الإشارة أيضًا إلى الإدمان على المخدرات كجرح من جروح عصرنا التي تؤلم العائلات للغاية، وينتهي به المطاف إلى هدمها ]…[ يمكن للعائلة أن تكون مكان الوقاية والحماية السليمة ]…[ إنّ العائلة عندما تكون في خطرٍ فهي تفقد إمكانية التفاعل لمساعدة أعضائها ]…[ العنف العائليّ هو مدرسة للاستياء والكراهية في العلاقات الإنسانيّة الأساسيّة”[1]. أفضت ذهنيّة الاستهلاك، إلى ذهنيّة التملّك، كما إلى دفع المرأة إلى العمل خارج المنزل، من أجل تثبيت سلطتها وموقعها داخل الأسرة وخارجها والتحكّم بمصيرها واستقلاليتها الماديّة. إنّ ذهنيّة النمط الاستهلاكيّ والنزعة المادّية، يفقدان قيمة العمل وجوهره. إنّ الربح السريع والجشع واستغلال الآخر، يناهضون فكرة العمل. فمن غايات وأهداف العمل: تحقيق الذات والعمل على النموّ والازدهار والتضامن والتعاون وخدمة المجتمع ومنها العائلة.
إنّ التربية البيتيّة أمام تحدٍّ كبير ومهمّ، لا سيّما أمام احترام حقوق الإنسان والتقيّد بالأنظمة والشرائع والقوانين، التي تحفظ حريّة الإنسان وكرامته.
- تربية مهدّدة
تساعد التربية المنزليّة على الولوج إلى ضمير الإنسان، حيث الابتعاد عن روح الغش والفساد والربح السريع وغير المشروع. لا يمكننا أن نتغافل عن التحدّيات الأخلاقيّة، التي تواجهها العائلة، في عصر “الإباحيّة” والتفلّت من الأخلاق، والابتعاد عن القيم، والحياة الإيمانيّة والروحيّة. انغمس عصرنا في هوّة الجنس ونتائجه السيّئة في ممارسته، وعيشه خارج إطار الحبّ والزواج. يقدّم عالم الاستهلاك، كلّ الإغراءات الماديّة والجنسيّة، من أجل إشباع روح الفرد، متنكّرًا للحبّ الصامد والقويّ والعميق، المبنيّ على الحنان والشعور والعاطفة والإحساس والاحترام والتضحية. من هنا، تحتاج عائلة عصرنا، إلى الدعم والمرافقة، لكي تتخطّى تلك التحدّيات الأخلاقيّة والروحيّة والإيمانيّة، بطريقة فعّالة وإيجابيّة، الأمر الذي يُسهم في صمودها وتطوّرها ونموّها على مختلف الصُعُد.
بالمطلق، عندما تسيطر على الإنسان النزعة الماديّة، وروح الاستهلاك الفاضح، والانغماس في الملذّات الدنيويّة، وتسطيح الفكر، وتغييب الضمير، يبتعد عن الروحانيّات وتتلاشى ممارساته الإيمانيّة، ممّا يشكّل تهديدًا حقيقيًّا لثبات العائلة واستمراريّة دورها التربويّ والإيمانيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ. تلك الحالة تُحدث إرباكًا في مسيرة العائلة، التي تنشأ على القيم والإيمان. هذا يؤكّد أهميّة قدرة العائلة وتماسكها وقوّة إيمانها في مواجهة هذه التحدّيات التربويّة والإيمانيّة. إنّ التيّارات الماديّة، التي تجتاح قسمًا من المجتمعات، أو التيّارات المناهضة لفكر الكنيسة وتعليمها، لا سيّما في مجال الأخلاق، يضغط ويؤثّر على التنشئة المسيحيّة وإعلان الإنجيل من قبل أفراد العائلة. لا بدّ للعائلة من الغوص في الإيمان الصحيح، والعميق والثابت، من أجل التغلّب على الشرّ، والرذيلة والكُفر. إنّ الموضوع الإنسانيّ، أو بالأحرى الفكر الإنسانيّ المبنيّ، على إنسانيّة الإنسان، بعيدًا من فكر الله وعمله في حياة الإنسان يبقى ناقصًا. يتدخّل الله مباشرةً، في حياة الإنسان لذا على العائلة، أن لا تقع في الالتباس، في ما بين الإلحاديّة والعلمنة، والنزعة الإنسانيّة والتيّارات العقلانيّة، والإيمان المسيحيّ. يبرهن جوهر الإيمان المسيحيّ على وجود الله في حياة العائلة، ومدى اهتمامه، في نجاح مسيرتها، من خلال الامتثال لتعاليمه الإلهيّة، التي تهب الخلاص. ترتكز العائلة المسيحيّة في مسيرتها الإيمانيّة، على عيش القيم الإنجيليّة، محقّقة (بذلك) الفضائل الإلهيّة: الإيمان والرجاء والمحبّة، وهذا تعبير وتأكيد على تمسكّها بتعاليم الله، ومنفذةً أعمال الرحمة والمحبّة.
- اقتصاد مُربِك
يحتاج الثنائيّ المغمور بالغرام والإرادة الحسنة، إلى مقوّمات أساسيّة وضروريّة، لنجاح حياته الزوجيّة والعائليّة واستمرارها. من بين تلك المقوّمات، القدرة على تأمين متطلبات الحياة من: مسكن وطعام وتعليم وغيره، بهدف تأمين “عيش” لائق. تدلّ المؤشرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والماليّة، بأنّ العالم مأزوم، اقتصاديًّا وماليًّا، ممّا يؤثّر سلبًا، على حياة الأفراد ولا سيّما على العائلة. يشكّل ازدياد الوضع الاقتصاديّ سوءًا، ضغطًا على العائلة وأفرادها، ممّا يؤدّي في بعض الحالات، إلى البطالة أو إلزاميّة عمل الزوجين المستمرّ، أو لهجرة الأب، أو لطلب المساعدة من أجل سدّ العوز. زِد على ذلك، ترزح معظم العائلات تحت أعباء الطبابة، والتعليم والمسكن، ومتطلّبات الحالات الخاصة: كالإعاقة والأمراض المستعصية، والمزمنة وغيرها، كما أنّها لا تستفيد من الخدمات التربويّة والثقافيّة والاجتماعيّة والترفيهيّة.
يمكننا التأكيد، بأنّ صعوبة الوضع الاقتصادي، يشكّل تحدٍّ للعائلة، لأنّه ينتج عنه ضغط نفسيّ وتوتّر في العلاقة الزوجيّة وخوف من المستقبل. فالوضع الاقتصاديّ المترديّ، كما النظام الاقتصاديّ، المسيطر على المجتمعات، يتسبّب بإقصاء قسم من شرائح المجتمع، لا سيّما العائلات المتوسّطة والفقيرة والمهمّشة.
يؤكّد علماء النفس والاجتماع، وأهل الاختصاص في العائلة، أنّ المَقدِرات الماليّة والاقتصاديّة، تُسهم أحيانًا في فشل مسيرة الحياة الزوجيّة، كما تسندها كثيرًا، في استمراريّة تفاعل الثنائيّ، بطريقة إيجابيّة وناجحة، مع سائر أفراد العائلة. المَقدِرات لها وجه إيجابيّ، وأحيانًا سلبيّ. تُدرك العائلة، أهميّة التعاطي بتلك المَقدِرات، من أجل ثبات العلاقة ونموّها.
- أخلاق متعثّرة
تجد العائلة نفسها، أمام التغيير الإيجابيّ أو السلبيّ، الحاصل على جميع الأصعدة، والذي أدّى إلى تغيير ملامح الإطار المجتمعيّ، مرغمة لتخطي الحواجز المتعدّدة والمتراكمة، من خلال الوقوف أمام تحدٍّ كبير. فهي مدعوّة لمواكبة مسيرة التغيير والتفاعل، بطريقة علميّة وعمليّة، أي ليس بقبول الواقع، وإنّما التأقلم معه، ومن ثمّ العبور نحو الأفضل، والملائم لنجاح مسيرة الحياة الثنائيّة. يواجه مجتمعنا، كما ذكرنا سابقًا، تحوّلات جذريّة، فيما خص التربية وممارسة الأخلاق، والقيم الإنسانيّة. ولا يمكننا أن ننكر، بأنّ تردّي ممارسة الأخلاق، في مجتمعنا، تضرب فكرة العائلة ورسالتها التربويّة والإنسانيّة وقيمها الأخلاقيّة. فهي تُسهم في تدعيم مجتمع سليم تسوده الأخوّة والسلام والعدالة وغيرها من قيم إنسانيّة وأخلاقيّة. تهدف التربية على الأخلاق إلى بناء إنسانٍ صالحٍ متوازنٍ وفاعلٍ في خدمة البشريّة ومشروع الله. يولّد تقهقر نظام القيم في عصرنا اليوم، أزمة حقيقيّة، تطاول معظم شرائح المجتمع، في تحقيق التفاعل الإنسانيّ، المبنيّ على الحبّ والمحبّة والفرح.
نعم، تُدرك العائلة تلك الحالة المزرية، التي تسود خبايا المجتمع وظاهره. تحاول العائلة مجتمعةً، التغلّب على التحدّيات التربويّة والأخلاقيّة، التي تعرقل تحقيق أهدافها، ألا وهي المساهمة في إحياء مجتمع متوازنٍ قدر المستطاع، وتفعيل ممارسة الإيمان وعيشه، وزرع الأمل والرجاء وتثبيت روح المشاركة.
تتعرّض العائلة، لشتّى أنواع الإرباكات والصراعات كما لسائر التحدّيات. بالتأكيد، لم نذكر كلّ التحدّيات، التي تصادفها العائلة، في كنفها أو في محيطها الخارجيّ. لقد ركّزنا على بعض المؤثرات الواقعيّة. لم نتطرّق إلى سائر الموضوعات: العولمة، والحريّة، والمحظورات والالتزام الإيمانيّ وممارسته ومفهوم الحبّ والزواج وأخلاقيّات الحياة، والسلوكيات الأخلاقيّة، والتفكك العائليّ ووجود المسنين، وظاهرة الهجرة، وإعادة تركيب فكرة العائلة، والزيجات المختلطة، والأوضاع الخاصة مثل: الإعاقة والمرضى المُزمنين، زيجات غير نظاميّة، إتّحاد الأشخاص من الجنس نفسه، انفتاح الأزواج على الحياة، والاتحادات الحرّة والمساكنة والذين تزوّجوا من جديد، التحدّيات الإيمانيّة، والأخلاقيّة والقيميّة، والعيش في مجتمع متعدّد الإيمان، والتحدّيات الثقافيّة والإعلاميّة. تؤثّر العوامل والتغييرات، التي طرأت مباشرةً على حياة “واقع” العائلة، إلى انتقال الأسرة من حالة الاستقرار إلى الفوضى، ومن حالة التماسك والتضامن، إلى حالة من التشرذم، ممّا يُدخل الشكّ في حياة الرجل والمرأة، ببناء علاقة صادقة ومتينة ومستمرّة.
- اضطرابات العصر
يعيش قسم كبير من مجتمع عصرنا تحت ضغوطات جمّة وعلى أكثر من صعيد. تنتشر الاضطرابات النفسيّة، بشكل واسع، بين أفراد المجتمع، لأسباب عديدة. يحاول البعض التخلّص من تلك الاضطرابات من خلال وسائل علميّة وعمليّة. تعود أسباب تلك الضغوطات والاضطرابات، إلى عوامل ثقافيّة واقتصاديّة، وإيمانيّة، ونفسيّة وإلى آخره. وتتأثّر الحياة العائليّة، بتلك الاضطرابات النفسيّة فيعيش أفرادها حالات الاكتئاب والضجر واليأس والخوف والانزواء والإحباط والتلاشي، الأمر الذي يؤدّي إلى الفشل وزيادة الفراغ أو حبّ الذات وارتفاع منسوب الغضب والكراهية والأنانيّة والتسلّط.
تتعرّض العائلة، كلّ يوم، إلى حالات من الاضطرابات والضغوطات، التي تعكّر مسيرتها اليوميّة. هي حالة من الخوف على ومن المستقبل، ويؤدّي ذلك إلى الشعور بأنّها مهدّدة في وجودها ومصيرها. تلك الضغوطات والاضطرابات هي تحدٍّ يترافق مع حياة العائلة. نعم، إنّها أمام تحدٍّ، أي أن تواجه برجاء وأمل، وأن تتغلّب على اليأس والخوف من الغد، كما على العنف الأسري والانتحار والغضب. ولمواجهة تلك العوامل، لا بدّ من التعاون والتعاضد بين أفراد العائلة والجهاد اليوميّ، من أجل تحقيق أوقات فرح ومساحات من الابتهاج والسعادة، ولقاءات حميميّة تستطيع التغلّب على كلّ ما يهدّد العائلة، أو ما يمنع عنها الولوج إلى السلام والنموّ.
الأب د. نجيب بعقليني
[1] فرنسيس، الإرشاد الرسوليّ، فرح الحبّ، عدد 51.
زينيت