المسيحيّة تؤمن أنّ يسوع المسيح إلهٌ أزليّ صار إنسانًا في التاريخ، وليس إنسانًا مخلوقًا رفعه الله إلى الألوهة. صار الإله إنسانًا، بل عبدًا. لم يختر الإله أن يصير ملكًا أو أميرًا أو قائدًا عسكريًّا، أو ثريًّا أو ذا جاه، أو ذا حسب ونسب. اختار أن يكون عبدًا فقيرًا لا يملك شيئًا من تراب هذه الدنيا. صار الإله الماسك الدنيا بقدرته عبدًا مساقًا إلى الصلب، عبدًا طائعًا قابلاً اللطم واللكمات والطعنات والشتائم…
المسيحيّة، أيضًا، اقتداء كلّيّ بيسوع وبأفعاله وبأقواله. من هنا قول الرسول بولس العظيم: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله، لكنّه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه واطاع حتّى الموت موت الصليب” (فيلبّي 2، 5-8).
يؤكّد الإنجيل في مواضع عدّة على أنّ الاقتداء بيسوع يقتضي من المسيحيّ أن يسلك سلوك العبد الخادم لإخوته، لا سلوك السيّد، حتّى وإنْ كان سيّد قومه بمقاييس زماننا الحاضر. فالمسيح، السيّد القدير، بعد أن غسل أرجل تلاميذه في الليلة التي أُسلم فيها إلى الصلب، توجّه إليهم قائلاً: “أنتم تدعونني معلّمًا وربًّا، وحسنًا تقولون لأنّي كذلك. فإذا كنتُ أنا الربّ والمعلّم قد غسلت أرجلكم فيجب عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض لأنّي أعطيتكم قدوة حتّى أنّكم كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا” (يوحنّا 13، 13-15).
السيادة في المسيحيّة ليست للسلطة ولا للقوّة ولا للمال، السيادة لا تتحقّق بسوى المحبّة والتواضع وطاعة كلمة الله، وخلاصة هذه كلّها الخدمة المجّانيّة حتّى بذل الذات. السيّد الحقيقيّ هو مَن اختار أن يكون خادمًا للفقراء والمساكين والنازحين والمهجّرين والمشرّدين واللاجئين وكلّ المعذَّبين. والمسيح نفسه يقول: “إنّ الذين يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وعظماءهم يتسلّطون عليهم، وأمّا أنتم فلا يكون فيكم هكذا. ولكن مَن أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومَن أراد أن يكون فيكم أوّلَ فليكن للجميع عبدًا. فإنّ ابن البشر (أحد أسماء المسيح) لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين” (مرقس 10، 42-44).
في الواقع ورد هذا القول في ردّ يسوع على التلميذين اللذين كانا يبحثان عن المجد الأرضيّ، إذ طلبا إليه أن يجلس الواحد عن يمينه والآخر عن يساره في مجده. كان التلاميذ جميعهم يظنّون أن المسيح أتى ليردّ الـمُلك الأرضيّ لإسرائيل، لذلك تنافسوا فيما بينهم على مَن سيستولي على سلطة أعظم من سواه في السلطان المزمع أن يأتي. التنافس على السلطة جعلت التلاميذ “يغضبون” (مرقس 10، 41) بعضهم على بعض، وجعلتهم ينكرون المسيح ليلة القبض عليه، وجعلت أحدهم يقبض ثمن خيانته… السلطة فرّقتهم، أمّا الخدمة حتّى الموت فجمعتهم وجعلتهم قلبًا واحدًا.
تتوسّل الكنيسة الطقوس والشعائر رموزًا تعبر فيها إلى الحياة اليوميّة. لا تقف الكنيسة عند حدود المشهديّة الطقسيّة وجماليّاتها، بل تجعلها بابًا إلى الخدمة المطلوب تأديتها تجاه الإخوة الضعفاء المنتظرين رحمة الله. فكما يتحدّث القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407) عن “قدّاس ما بعد القدّاس”، ثمّة “غسل أرجل بعد غسل الأرجل”، وثمّة “صليب بعد الصليب”، وثمّة “قيامة بعد القيامة”… مَن يكتفي بالمشهديّة ولا يأتي إلى الشهادة ما زال غارقًا في الوهم. مَن يبقى في الـ”ما قبل”، ولا يحيا في الـ”ما بعد” لم يدرك مسيحيّته بعد.
ليبانون فايلز