يبرع الناس الذين يهرعون إلى الكتاب المقدّس من أجل تبرير أقوالهم وأفعالهم غير الموافقة للمسيح في إيجاد بعض الآيات التي تدعم آراءهم المخالفة، لكن بعد أن يبتروا الفقرة المستلّة من سياقها ويحرّفوها عن هدفها الحقيقيّ. وقد لجأ العديدون إلى هذا الأسلوب في سبيل دعم مواقفهم ممّا يسمّى زورًا وبهتانًا بـ”الحرب المقدّسة”.
“قال يسوع: لا تظنّوا أنّي جئت لألقي السلام على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا” (إنجيل متّى 10، 34)، هي الآية الأكثر تداولاً ما بين مؤيّدي فكرة الحرب المقدّسة. لكنّ الآية المذكورة، إذا ما تابعنا قراءة الفقرة الواردة فيها لوجدنا، إذا اهتدينا بالتفسير الآبائيّ الكنسيّ، أنّها لا تمتّ بصلة إلى الحروب والصراعات والمعارك العسكريّة. فالنصّ يتابع موردًا على لسان يسوع: “جئتُ لأفرّق بين المرء وأبيه، والبنت وأمّها، والكنّة وحمّاتها. ويكون أعداء الإنسان أهل بيته. مَن أحبّ أباه وأمّه أكثر ممّا يحبّني، فلا يستحقّني. ومَن أحبّ ابنه أو ابنته أكثر ممّا يحبّني، فلا يستحقّني. ومَن لا يحمل صليبه ويتبعني، فلا يستحقّني. مَن وجد نفسه يخسرها، ومَن خسر نفسه من أجلي يجدها” (متّى 10، 35-39).
المقصود بالسيف، إذًا، ليس السلاح البتّار الذي يُستعمل في الحروب، بل هو كلمة الله التي تقطع ما بين الخير والشرّ، ما بين البرّ والإثم، ما بين الصلاح والخطيئة… كما يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيّين: “إنّ كلمة الله حيّةٌ، فاعلةٌ، أمضى من كلّ سيف ذي حدّين، تصل في نفاذها إلى ما بين النفس والروح والأوصال ومخاخ العظام، وتحكم على خواطر القلب وأفكاره” (4، 12). في شرحه للآية يقول القدّيس هيلاريون أسقف بواتييه (+367): “عندما نتجدّد بماء المعموديّة بقدرة الكلمة، ننفصل عن أصل خطايانا ومنشئها، ونُقطع عن تعلّقنا الجامح بالأب والأمّ، كما بسيف الله، ونُفصل عنهما”.
أمّا القدّيس إيرونيموس (+420) فيبدو أكثر وضوحًا في شرحه للفقرة، فيذكّر بأنّ يسوع بعد أن قال: “ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا”، أضاف أنّه (أي يسوع) فرّق بين المرء وأبيه وأمّه وأقربائه، “لكي لا يضع الولاء العائليّ قبل الإيمان (…) يجب أن نصون هذا الترتيب في كلّ علاقاتنا. أحبب أباك وأمّك وأبناءك، شرط ألاّ يتعارض حبّك للأهل مع حبّك لله، فيستحيل الحفاظ عليهما معًا. رفضك عائلتك خيرٌ من رفضك لله”.
المغبوط أغسطينوس (+430) يذهب المذهب ذاته، فبعد أن يذكر أنّ الوالد يقول لابنه: “إنّني أنجبتك”، والوالدة تقول: “إنّني حملتُك”، ويقول الأب: “إنّني ربّيتك”، وتقول الأمّ: “إنّني عُلْتُك”، يوصي أوغسطينوس سامعيه بأن يقول كلّ واحد منهم لوالديه: “إنّني أحبّكما في المسيح، لا بدلاً عنه، أنتما معي في المسيح، لكن لن أكون معكما بدونه”. أمّا إذا قال الوالدين: “نحن لا نهتمّ بالمسيح”، فالخيار لدى أوغسطينوس حاسم: “قل لوالديك: أنا أهتمّ بالمسيح أكثر من اهتمامي بكما. هل أطيع مَن ربّاني وأخسر مَن خلقني؟”.
أمّا بالنسبة إلى قول يسوع: “ومَن لم يكن عنده سيف فليبعْ رداءه ويشترِه”، وجواب تلاميذه عليه: “يا ربّ، ههنا سيفان”، فقال لهم يسوع: “كفى” (إنجيل لوقا 22، 36-38)، فيقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) مصورًا القدّيس بطرس الرسول يقول ليسوع: “لماذا تأمرني الآن بأن أشتري سيفًا وأنت منعتني من استخدامه؟ لماذا تأمرني بان أملك ما منعتني من استلاله؟”. ثمّ يأتي الجواب وفق أمبروسيوس الذي يتابع قائلاً: “قلتَ يا يسوع لبطرس حين قدّم السيفين: يكفي… يبدو هذا الأمر للكثيرين أنّه شرّ، لكنّ الربّ ليس شرّيرًا، فرغم قدرته على الانتقام، يختار أن يُصلب. هناك سيف روحيّ لتبيع ما لك وتشتري الكلمة، التي تكسو أعماق الفكر”.
مَن يريد أن يعود إلى الكتاب المقدّس ليستلّ منه ما يناسب رغباته وشهواته فسيخيب ظنّه بلا ريب. فالمؤمن الحقيقيّ هو الذي يعود إلى الكتاب المقدّس ليبحث عما يريد هذا الكتاب قوله لنا، لا أن نقوّله ما لا يقوله بعد أن نشوّهه تقطيعًا وتفتيتًا. فللراغبين بتبرير حروبهم المقدّسة نقول بلسان عربيّ غير فصيح: “روحوا خيّطوا بغير هذه المسلّة”.
• المراجع الآبائيّة مستلّة من سلسلة التفسير المسيحيّ القديم للكتاب المقدّس، منشورات جامعة البلمند، المجلّدين: الإنجيل كما دوّنه متّى، الجزء الأوّل، ص 355-365، والإنجيل كما دوّنه لوقا، ص 516-517.
ليبانون فايلز
الوسوم :"ما جئتُ لألقي سلامًا بل سيفًا" بقلم الأب جورج مسّوح