الطوبى ! هي في الكتاب المقدّس ، تلك الصرخة التي تهنّئ الذي ، بعد أن يكون قد جعل عطايا الله تُثمر ، يختبر للحال نوعًا من السعادة ؛ وهو ، إذا ظلّ أمينـــًا على الطريقة التي اختارها ، سيُعلن بارّا ابان الدينونة الإلهيّة .
يقول الأب جان ديبون حول التطويبات : ” هل حاولتَ أن تصرخ في مدينة أكواخ : ” طوبى للفقراء …. ” ؟ لم أعد أتحمّل سماع إعلان التطويبات في أثناء احتفالاتنا الدينيّة في أيّة مناسبة كانت . فالمسيحيّون الذين يرنّمونها بكثير من قلّة الوعي ، وعلى ألحان دينيّة رائعة ، لا يدركون ما يقولون ؟ ، إنّ التطويبات هي في الحقيقة صرخات ثوريّة ! وها هم يجعلون منها وسيلة للمحافظة على نظام ٍ إجتماعيّ غير عادل … ” .
فعلا ً ، إن ذهبتُ بدوري إلى منطقة ٍ فقيرة جدّا ، تعاني من قلّة الغذاء والدواء والماء ، وقلتُ لهم : ” طوبى لكم لإن يسوع قال هذا الأمر فأفرحوا …. ” ، ما عساني أن أكونَ في هذه الحالة إلا شخصًا لا فهمَ له . وسيؤيّد النظام الجائر الغير العادل ، والظلم الكبير أيضا . ما معنى ” فقراء الروح ” ؟ .
ما هي هذه الإضافة في التطويبة ” الروح ” ؟ . كثيرًا ما نجدُ هذه العبارة في الكتاب المقدّس : عبارة تعريفيّة (اسم أو صفة أو أسم فاعل … ) تُضمّ إلى كلمة رئيسيّة لتلفت نظرنا إلى أنّ هذه الكلمة يجب ألاّ تُؤخذ بمعناها المألوف . فلفظة التعريف ” الروح ” ، تشير إلى أنّ المقصود هو غير الفقر بمعنى ( العَوَز) ، بل الإستعداد الروحي. في التطويبات مَثَل آخر: “طوبى لأطهار القلوب ” . فكلمة ” طاهر ” تعني ما هو نظيف لا لطخة فيه. فالمراد بإضافة كلمة (قلب) ، هو دلالة على أنّ الصورة يجب أن تؤخذ بالمعنى الباطنيّ . فالمقصودُ هو إستعداد الروح .
وعلى نحو ذلك ، يُقال في الكتاب المقدّس ، ولا سيّما في المؤلّفات الحِكَميّة ، عن إنسان أنه ” شامخ الروح ” ، أي متكبّر ، أو ” منخفض الروح ” ، أي متواضع . وكذلك فإنّ “طويل الروح” هو الصبور ، في حين أنّ قليل الصبر هو ” قصير الروح .
فليسَ المقصودُ هنا الفقراء بالمعنى المألوف. ولكن كيف العمل لِنقل مفهوم الفقر هذا إلى صعيد روحيّ ؟ سبق لآباء الكنيسة أن طرحوا هذه المشكلة على أنفسهم ، فقالَ بعضهم إنّ معنى الفقر الروحيّ هو ” التواضع “، وقال بعضهم الآخر إنّه ” الزهد الداخليّ ” بخيرات الأرض . أمّا المفسّرون العصريّون ، فيرفضون عادة هذين التفسيرين ويقترحون تفسيرات أخرى عديدة ليس فيها ما يفرض نفسه !
من حسن الحظّ ، ازدادت الأمور وضوحًا منذ العثور على مخطوطات البحر الميّت في قمران . فقد وردَ فيها ثلاث مرّات عبارة ” عناو روح ” ، أي كلمة ” عناويم ” مع كلمة ” روح ” للتعريف . وقد وردت فيها أيضا العبارة المقلوبة ” روح عناوه ” ، أي ” روح الفقر ” .
توحي كلمة ” عناويم ” العبريّة بصورة ” المنحنين ” أو ” المَحنّيين ” . هذا موقف الضعيف العاجز عن المقاومة والدفاع عن نفسه والمُكرَه على الرضوخ للأقوياء . إنّ كلمة ” فقير ” العربيّة مشّتقة من الأصل ” ف ق ر ” الذي يدلّ على الحاجة . أمّا في اللغة العبريّة ، فالفقير يُعدّ إنسانا مذلولا ، إنسانا عاجزا عن فرض إحترام حقوقه ، فالـ ” عناويم روح ” ، أي فقراء الروح ، هم اناسٌ ينحنون باطنيّا ولا يقاومونَ ولا يتمرّدون ، أناس لهم ” روح عناو ” ، روح فقر ، وهو موقف روحيّ كلّه تواضع وصبر ووداعة . ومن الواضح أنّ آباء الكنيسة ، الذين فسّروا ” عناويم ” بالـ “متواضعين ” ، كانوا على حقّ ، ولكنّهم كانوا عاجزين عن تبرير ِ تفسيرهم . فإنّ عبارة ” فقير الروح ” لا تعني ” المتواضع ” ، لا في اليونانيّة ولا في اللاتينيّة ولا في السريانيّة . فنكون هنا أمام أمر من التقليد يرقى عهده إلى زمن كان العارفون يتقنون فيه العبريّة ، وأمام تقليد قديم لم يُفقد .
بقلم عدي توما / زينيت