مؤكّد أنّ السماء تختلفُ عن ” السماوات ” . عندما يقول يسوع ” ملكوت السماوات ” ، فهو لا يقصد ” السماء الفضائيّة ” من كواكب ونجوم وووو . كلّا
فيسوع ليس عالمًا في الكون بل ابن .
في نظرنا نحنُ ، السماء هي أوّلا الفضاء الذي يحيط بالأرض من كلّ جانبْ . فضلا عن هذا المعنى ، هناك أيضا حتى في استعمالنا اليوم معنى آخر . فنقول مثلا : إننا نشعر كأننا في السماء ، أو إنّ السماء هي على الأرض ، أو إن السماء قد أطبقت علينا .
في هذا المعنى الثاني ـ السماءُ هي ميدان جهادات الإنسان وآماله وأحلامه. هي كلّ ما يتجاوز المرئيّ والمحسوس والمعدود والمصنوع ، ومع ذلك ، يُنسَب إليه العرض والعلوّ والعمق ، ويُنظَر إليه في نظرة ٍ أو منظور ما . هذا ما يعنيه أيضا قانون الإيمان بقوله إنّ الله قد خلقَ مع الأرض ، أي ما يُرى ، عالَم ما لا يُرى . فالعالم هو إذن ، أكثر ممّا تعتبره الماديّة ، أكانت ماديّة نظريّة أم علميّة . فالماديّة تنكر علوّ الواقع وعمقه وغناه وملأه . فلا تفكر الماديّة وأصحاب العلوم إلا بالفضاء الخارجيّ وأعداد المجرّات والنظريات الرياضيّة .
لا ينكر الإيمان أبدًا ، ولا الكنيسة المقدّسة أنّ للعلم نظريّاته ومجاله الخاصّ ، وأنه يخدمُ الإيمان .. لكنْ ، العلوم المعاصرة المرتبطة بالإنسان (العلوم الإنسانيّة ) ، لا يمكن أن تقول لنا بالتفصيل أمورًا كثيرة جزيلة الفائدة . علم النفس وعلم الإجتماع المعاصران يستطيعان مساعدتنا على إزالة عوائق كثيرة في حياة الفرد وحياة الناس بعضهم مع بعض . غير أن الجواب عن المعنى الأخير للإنسان يتخطّى إمكانات هذه العلوم . فهناك ميادين من الواقع لا تدخل ضمن حدود مناهج العلوم . ومن الصعب عليها (أي العلوم) أن تعطينا أيّ شيء فيما يخصّ السماوات … ما السماوات ؟!
اللاهوتيّ رومانو غوارديني يقول : ألا تكونُ السماء إذن في أعالي الفضاء ؟ كلاّ ثمّ كلاّ ، فلا وجود للأعالي في الفضاء إلا في الفكر . وعلى كلّ ، فإننا لنشعر بأنّ لجهة المشار إليها إنما هي رمز لشيء آخر . إذ لو صعدنا إلى الشمس أو إلى النجمة سيريوس لما كنا في السماء الإنجيليّة أقرب منّا لو بقينا في الأرض …. السماء (وطبعًا المقصود السماوات ) هي باطنيّة قدس الله ، أو الله في باطنيّة وجوده ، كيفيّة وجوده تجاه ذاته ، التي هي بحدّ ذاتها ممتنعة عن كلّ خليقة ، ويسمّيها القديس بولس ” النور المتعذّر بلوغه ” 1 تيمو 6 : 16 .
ويقول البابا بنديكتوس السادس عشر : صورة السماء ، التي ترتبطُ بالرمز الطبيعيّ لما هو ” فوق ” ، في العلى ، هي الصورة التي يعبّر من خلالها التقليد المسيحيّ عن الإكتمال النهائيّ للوجود البشريّ من خلال المحبّة المكتملة التي ينزع إليها الإيمان . هذا الإكتمال ، بالنسبة إلى المسيحيّين ، ليس مجرّد موسيقى مستقبليّة ، بل هو عرضٌ لما يحدث في اللقاء مع المسيح ، وما هو منذ الآن حاضرٌ في هذا اللقاء بصورة أساسيّة .
ويقول أيضا … السماء هي واقع شخصيّ يبقى على الدوام متّسما بطابع أصله التاريخيّ في السرّ الفصحيّ ، سرّ موت يسوع وقيامته . السماءُ بحدّ ذاتها ، هي واقع ” أسختولوجيّ – أواخريّ ” ، إنها تفتّح لما هو نهائيّ وما هو مختلف تمامًا . إنها تنالُ طابعها النهائيّ الخاصّ من نهائيّة محبّة الله المطلقة والتي لا انقسام فيها . فمن انفتاح تاريخ جسد المسيح ، الذي لا يزالُ في طور الإكتمال ، وتاريخ الخليقة كلّها ، يأتي انفتاحها على ملء اليوم الأخير . ولن تكتمل السماء كلّيا إلا عندما يجتمع كل اعضاء جسد الربّ .
السماوات ، هي الحياة مع الاب والابن والروح القدس ، أي مع الثالوث القدّوس
أعيشُ سمائي ، بأن أضعُ ذاتي كلّها ، من دون خوف ولا تردّد ، بين ذراعي أب ٍ حنون رحوم ، أعرف بإنه لن يخذلني لإن وعوده صادقة . إنها الثقة البنويّة بالله … بين يديه أستودع كلّ شيء
زينيت