تحقيق ايمان سلامة
وطنية – للتاريخ حكايات في أروقة مدينة صيدا وعمارتها وصور لوحات هندسية اختلفت أشكالها باختلاف مشارب قاطينها وجذورهم التي ينتسبون اليها بلدا ولغة فكثر هم من وطئوا صيدا واتخذوا منها دارا ومسكنا حتى باتوا في صلب النسيج الإجتماعي للعائلات العريقة فيها.
وكان لا بد لهذه العائلات أن تنسج قصصها في زوايا امكنتها التي لطالما جعلتها مقصدا لكل محب وعالم وعاشق للتراث والأصالة الفنية المعمارية والتاريخية.
وها هو اليوم متحف دبانة المتوسط في سوق صيدا القديم وبجانبه كنيسة مطرانية صيدا ودير القمر للكاثوليك التي شيدت عام 1881، ومن الجهة البحرية يناظره الجامع البراني الذي يقارب عمره 350 سنة بناه حينها الأمير فخرالدين الثالث. وأما على الوجهة ذاتها وبموازاته كان خان القشلي فما قصة هذا المتحف المختبىء خلف مدخل الأدراج الضيقة تعلوه بوابة يرن لك جرسها لتعبرها وتكتشف ما اكتنزه المكان من أناس رحلوا بأجسادهم وبقوا بإرثهم الفكري والتاريخي، وآخرين أحيوه، فحولوا القصر متحفا وثقافة ينهل منها الزائرون بمختلف ثقافاتهم ولغاتهم.
علي آغا حمود
بدأت الحكاية بقدوم علي آغا حمود الى مدينة صيدا وهو مغربي الأصل، ويروى أنه كان غنيا فاتخذ هذه البقعة من الأرض مسكنا لعائلته عام 1721 وكان يمثل خان القشلي ثكنة عسكرية له في زمن الأتراك لما يشغله من مناصب رسمية في تلك الحقبة، فعمر فيه مئة سنة ومن ثم توفي عام 1800.
وقضت عائلته سنيها المئة في قصر زينته حديقة مزدانة بالأشجار والأزهار ليصبح مكانها في ما بعد غرفوقاعات منها “الحرملك” و”السلملك” الأولى وتعني مسكن النساء وأماكن منافعهم وجلوسهم حيث لا يسمح للرجال رؤيتهم أو مجالستهم وهذه المساحة باتت اليوم مفصولة عن القصر لانتقالها الى ملكية آل صاصي. والثانية تعني تحية السلام عليكم حيث اماكن لقاء الرجال في قاعات الجلوس والإستقبال تصدرتها بركة “نافورة ماء” صغيرة يقال انها وضعت لكي تضفي جوا من الإنتعاش ولتشغل الأسماع عن سرية الأحاديث التي كانت تحكى بين الأشخاص لخطورة تسربها للأعداء.
ويترافق في هذه الحقبة وجود اسطبل الخيول الذي يقع في أسفل المبنى ومازال علىح اله حتى يومنا هذا رغم انعدام وجود الخيل كوسيلة للتنقل.
هذه القصة التي وقعت أحداثها في عهد علي آغا حمود ولكن ما هي الوقائع التي حدثت بعد ذلك الحين؟.
انتقال القصر لآل دبانة
عندما شيد علي آغا حمود القصر عاش فيه مئة عام وتوفي بعدها لتنتقل ملكيته لعائلة جوزيف دبانة عام 1800 والذي جعله على نحو الدار العربية العثمانية التقليدية الخاصة بتلك الحقبة والمؤلفة من فناء داخلية مؤدية الى القاعات المحيطة بها.
ويشهد هذا القصر الذي يبلغ عمره ثلاثمئة عام على مهارة الهندسة المعمارية الدمشقية التي تطورت بفعل التقاليد المملوكية وبتأثير من الفن العثماني (عندما كان طابقا واحدا).
وفي العام 1920 اتخذ المبنى شكله الحالي مع سطح القرميد الاحمر والواجهة الزجاجية التي تضيء الباحة الرئيسية لذلك، ولكل ما احتواه من مقتنيات اثرية ذات صلة تاريخية صنف في عام 1968 معلما أثريا واستقرت العائلة فيه حتى 1978 وبسبب الحروب التي غزت المنطقة آنذاك غادر آل دبانة المكان مما دفع باللاجئين لاحتلاله والسكن فيه حتى عام 1983 ليسترد بعدها ويعمل على إعادته كشكل ومضمون بعدما حل به الخراب والدمار نتيجة احتلاله وضياع جزء من مقتنياته.
ويكون بذلك عام 1999 وقف دبانة قد أنشىء ليقرر عام 2000 ترميم المبنى للحفاظ على ماضيه التاريخي وتقديمه للمجتمع والعامة كمكان تاريخي يقصدونه، أتى في العام 2001 فيما كانت عملية الترميم الكامل في طورالإنجاز ليختتم في العام نفسه بانتساب الوقف للمجلس الدولي للمتاحقف ولجنة المساكن التاريخية – المتاحف.
عائلة دبانة لم تبق المكان من دون بصمة منها، فبعدما كان القصر يضم عددا من الدكاكين الصغيرة والإسطبلات وحديقة ومن طابق أول ويشمل غرفا وقاعات استقبال وبهوا مركزيا سقفه مفتوح اتسعت لتضم طابقا علويا يحتوي على غرف نوم وسطحا يشرف على واجهة صيدا البحرية بقلعتها وخانها الإفرنجي، وأبقت على سبيل المياه القديم الذي كان يختزن في ما مضى امطر الشتاء (حوض للاستعمالات المنزلية الخاصة) بات اليوم يعمل بأنبيب خاصة لتشكل عبره البركة الداخلية لغرفة الإستقبال.
والأسقف التي ازدانت بخشب الأرز المطلي والمنقوش لم يعمر منها إلا واحد بفعل الامطار والأضرار الناجمة عنها.
وعمل بعدها في مرحلة القرن العشرين روفائيل جوزيف دبانة لاستقدام المهندس الفرنسي ديشان لإضفاء الرونق الأوروبي والإبقاء على المسحة الشرقية التي تميز المكان بأشيائه وهندسته ومحتوياته خاصة ذلك المطير (القفص) الذي يحكى بأن السيد دبانة قدمه هدية لزوجته الفرنسية الأصل أنجيل بورتاليس الموصوفة بتلك الآونة بين السكان لحبها وعشقها لطيور الكنار، وجمع هذا القصف اكثر من مئة طائر كناري جعلوا القصر وقتئذ جوا لمعزوفاتهم الموسيقية والمقتنيات الأكثرية للمتحف تقع في كل زاوية من المكان، فالبهو يجمع بين الليوان (غرفةالجلوس) والآلات الموسيقية القديمة التي كانت تعزف عليها نساء تلك الفترة والعلم الإيطالي المرتفع فوق صندوق خشبي قديم يعود وضعه بحسب تاريخ العائلة بأن الجد كان قنصلا فخريا لإيطاليا في صيدا حينها وحتى الديوان (غرفة الإستقبال) لم يخل من قطع الأسلحةالفرنسية الصنع والنقوش التي علت سقفه وجدرانه.
حكاية آل دبانة والمكان لم تقف عند هذا الحد بل هي مستمرة ودائمة لإحياء تاريخ هذا المكان والسعي في إبراز ما دفن من معالمه والدأب في الحفاظ عليه وتسليمه إرثا ثمينا من جيل الى جيل.