سعاد مارون / الجمهورية
تطوّرت أخيراً الصحافة الإستقصائية التي تُضيء على مكامن الخلل في الحياة العامة، في وقتٍ يتسابق مفهوم الحريّة الإعلامية، مع مبدأ الحفاظ على سمعة الغير وحقوقه. فما هي الحدود التي وضَعتها القوانين اللبنانية؟ ومتى يتخطّاها الإعلامي في نظر القضاء؟
عرض رئيسُ محكمة المطبوعات القاضي روكس رزق وقاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين، للإشكاليات التي تطاول مفهوم الحريات الإعلامية في ظلّ القوانين اللبنانية، وميّز القاضيان خلال ندوة عقدت في نقابة المحامين في بيروت، بين تعاطي القضاء تجاه التشهير الذي يفيد المصلحة العامة وبين الإجراءات المتخَذة في حقّ الإعلاميين الذين يتجاوزون هذا الحدّ.
ولفت رزق الى أنّ التوتّر السياسي، رفَع عدد دعاوى القدح والذم والتحقير بواسطة النشر، التي تدخل ضمن اختصاص المطبوعات حصراً، وأنّ 30 في المئة منها تقيمها جهة واحدة «معروفة»، موضحاً أنَّ الأحكام محصورة بفرض الغرامات والتعويضات الشخصية ونشر الحكم، «ولم تُقرّر محكمة المطبوعات في بيروت الحبس إلّا في حالتين، إنهال فيهما أحد الصحافيين بالشتائم على رئيس الجمهورية بلا أيّ سياق إعلامي أو سياسي».
واشار رزق الى أنّ تقديم الشكوى أمام قاضي التحقيق قبل رفعها الى «المطبوعات» يطيل الإجراءات أكثر، فضلاً عن تعريض المدعى عليه للتوقيف في وقت لا يجوز لـ»المطبوعات» توقيف الصحافيّ، موضحاً أنّ مسار الدعوى غالباً ما يتعثّر أمام «المطبوعات» لتعذّر تبليغ النواب المدعى عليهم، سائلاً: ما أهمية البت في قضايا القدح والذم بعد سنوات؟
المواقع الإلكترونية
وفي ظلّ غياب قانون ينظّم عمل المواقع الإلكترونية، لجأ القضاء اللبناني أخيراً الى توسيع مفهوم «المطبوعة»، وفي هذا السياق لفت رزق الى أنّ محاكم المطبوعات تعتبر المواقع المفتوحة للجمهور العريض بمثابة «المطبوعة» ما يسمح بمحاكمة مستخدميها أمامها، ولا يُعَدّ هذا التوجّه لبنانياً بحتاً باعتبار أنّ محكمة التمييز الفرنسية تسير به بدورها، أما لجهة الصلاحية المكانية للقضاء، فأوضح رزق أنّ محاكم المطبوعات تصرّ على اعتبار أيّ منها ذات صلاحية في محاكمة الموقع الإلكتروني، لأنْ لا مكان محدداً للضرر الذي تلحقه جرائم المطبوعات المقترَفة بواسطة الإنترنت، وهذا ما لا تجاريها فيه محكمة التمييز اللبنانية التي تعتمد مبدأ مركز الشركة.
متى يلاحَق الصحافيّ؟
لكفّ التعقبات في حق موكليهم يحاول بعض المحامين الإستعانة بالمادة 387 عقوبات التي تنص على أنّ «في ما خلا الذم الواقع على رئيس الدولة، يبرَّأ الظنين إذا كان موضوع الذم عملاً ذات علاقة بالوظيفة وثابتاً صحته»، لكنّ رزق شدّد على حصر تطبيقها بجرائم الذم الواقعة على الموظّفين العامين، لافتاً في المقابل الى أنّ المادة 583 عقوبات التي تنص على أنه «لا يُسمح لمرتكب الذم تبريراً لنفسه بإثبات حقيقة الفعل موضوع الذم او اثبات اشتهاره»، لا يمكن تطبيقها في القضايا التي يقع فيها الذمّ في حق من لا يعمل في الشأن العام.
قرارات يمكن كسرها
من جهته، عرض زوين لنظرة القضاء المدني وتحديداً قضاء العجلة، معلناً التمسك بحرية الإعلام، ولافتاً الى أنّ قضاء العجلة يتدخّل لرفع التعدي الواضح على الحقوق وفقاً للمادة 579 من قانون اصول المحاكمات المدنية، نافياً مقولة ممارسة القضاء رقابة مسبقة على الإعلام «فهو لا يمنع حلقة او منشوراً قبل نشره، إلّا متى بدأ التشهير بالإعلان عن هذه الأعمال باعتبار أنّ الضرر وقع».
وفي ما يتعلّق بالمواقع الإلكترونية، أوضح أنّ الإختصاص المكاني يكون لأيّ قاضي عجلة يقع الضرر في دائرته، ما يتوافق مع وجهة نظر محكمة التمييز الفرنسية التي أخذت بمعيار مكان ولوج الإنترنت (critère de l›accessibilité).
ولفت الى أنّ قرارات قضاة العجلة موقتة ولا تتعدّى فرض غرامة إكراهية على مَن يصرّ على ارتكاب التشهير، في وقت يمكن كسرها أمام محاكم الأساس إذا ثبت أنّ التشهير كان للمصلحة العامة وقد طاول شخصيات وضعت نفسها في دائرة الضوء أو المسؤولية، وكانت المعلومة المنشورة صحيحة.
واعتبر زوين أنّ مفهوم المصلحة العامة يطبّق في ضوء أحقية التشهير بمصدر الفساد وليس بفروعه. وإذ دعا الإعلام الى المضي قدماً بلا خوف في نشر ما يجده صحيحاً ومفيداً للمصلحة العامة، أوضح أنّ القضاء اللبناني بات يُجاري محاكم أوروبا في موضوع الحريات الإعلامية.
قد لا يتقبّل معظم الإعلاميين حاجة القضاء الى فرض التوازن بين حرية نشر المعلومة ومدى الضرر اللاحق بالغير، لكن يبدو أنّ التوجّه القضائي العالمي يسير في اتجاه وضع حدود واضحة للحرية الإعلامية، تأخذ في الإعتبار رسالة الإعلام في البحث عن الحقيقة والتنبيه من خطر الفساد، مع حقّ المتضرر في ملاحقة مصدر التشهير الذي لا يخدم المصلحة العامة، وهذا ما يمكن لمسه في القرارات الصادرة عن المحكمة الأوروبية العليا لحقوق الإنسان.