“الرزق السايب بيعلّم الناس الحرام”… ولكن إذا لم يكن هذا المال سائبا فإن الحرام يصبح تسلّطا واستغلالاً، خصوصا إذا “شرّعنته” جهات نافذة سياسية وحزبية أو جرى فرضه أمراً واقعاً! والأخطر أن يتخذ هذا “التسلّط” بُعدا طائفيا، فيصبح اضطهادا يناقض مفهوم العيش المشترك الذي ينادي به – وإن صوريا – اللبنانيون، ولا سيما منهم من هم في موقع المسؤولية السياسية والدينية.
قضية لاسا وغيرها من قضايا التعدّيات على أراضي المسيحيين لا تنتهي فصولا ولا تُحد بنطاق جغرافي معيّن، ولا تتمكن السلطات القضائية من معالجتها بسبب المتاهات والتدخّلات السياسية التي تعوق مسار تقدّمها القانوني، تاركة لعامل الزمن تكريسها أمرا واقعا.
هذا ما ينسحب على قرية القصير وجزء من قرية فرون ومزرعتي علمان والزقية التي تفوق مساحتها مجتمعة 12 مليون متر مربع، وهي من أكبر المساحات التي يملكها مسيحيون في لبنان منذ أوائل القرن العشرين، ويحدّ معظمها نهر الليطاني وتملكها عائلتا الزغبي من قرنة شهوان والأصفر من الاشرفية، اللتان تحتفظان بصكوك ملكيتها ومستندات وإفادات علم وخبر من المخاتير. إلا أنّ المشكلة القديمة الجديدة هي الاستيلاء على أجزاء من هذه الأرض، ومحاولة تكريسها وتسجيلها بكل وسائل التزوير والاستغلال السياسي وحتى التصدي لمسحها النهائي، بغية تملّكها والضغط على أصحابها واحتلال منازل قائمة فيها، وبناء منازل عليها من دون رخصة، واقتلاع أشجار زيتون معمّرة وبيعها.
الدعاوى من العائلتين مستمرّة منذ التسعينات على من يحاول الاستيلاء على أراضيهما، وقد توصّلتا عبر القضاء إلى نتائج محدودة من قرارات ظنية بالتزوير وختم منازل بالشمع الأحمر، إلى أمر إجلاء “المحتلين”، غير أن هذه القرارات لم تُطبّق على الأرض بسبب التدخل الديني والسياسي، والذي بحسب العائلتين، “يرعاه ويقوده رجل دين يدّعي ملكية شخصية له ولأقربائه ويحمي من يزوّر ويتسلّط، كما أنّه يتسلّح بوكالات من المعتدين لمساعدتهم من أجل فرض واقع، متسلّحا بموقعه الديني وعلاقاته السياسية، وفي حقّه حاليا مذكّرة جلب من القضاء المختص، لأنّه يمنع منتدبين من العائلتين من الوصول الى أرضهم ويهدّدهم بالقتل، مكرّرا أنّه “ممنوع على النصارى أن تطأ رجلهم هذه الارض!”، بحسب قولهم.
وشرح محامي عائلة الزغبي طانيوس الزغبي لـ”النهار” تفاصيل هذه القضية وملابساتها: “بحسب الدوائر العقارية اللبنانية، يملك آل الأصفر كل هذه الأراضي منذ عام 1925، وقد باعوا نصفها عام 1933 من عائلة دوشيه الفرنسية التي بدورها باعت حصّتها عام 1956 من آل الزغبي بواسطة عقد بيع مسجّل في الدوائر العقارية، بعد تسديد جميع الرسوم الموجبة. غالبية هذه الأراضي غير ممسوحة، على رغم أن الدولة اللبنانية اتّخذت قرار بدء أعمال التحديد والتحرير رسميا عام 2002، إلا أن الضغوط والتهديدات من الذين يحاولون السيطرة على هذه الأرض وتملّكها بالقوّة، تحول حتى اليوم دون إنجاز عملية المسح”.
منع المسح بالقوة
نبدأ من مزرعة الزقّية التي تبلغ مساحتها مليوناً ونصف مليون متر مربّع، يحدّها نهر الليطاني وفرون (قضاء صور) وعلمان والقصير (قضاء مرجعيون). يملك آل الزغبي 58 في المئة منها وآل الأصفر 35، في حين تملك عائلة المرحوم حسيب غندور من النبطية 7 في المئة من المساحة الإجمالية كانت اشترتها من آل الاصفر أوائل السبعينات. ويذكر الزغبي “أن الأرض غير ممسوحة بعد من الدولة اللبنانية، إلا أن هناك مستندات عدة تبين ملكيتها منذ عام 1925، وقد استثمرها آل الزغبي وآل الاصفر منذ شرائها. المشكلة بدأت عام 1996 عندما أقدم س. م. ك. على تزوير مستندات لتملّك عشرة آلاف متر مربع، فجرت ملاحقته قضائيا من العائلتين، وصدر قرار ظنّي بالتزوير عام 2004، إلا أنّ الحكم النهائي لم يصدر بعد بسبب التسويف والتدخّلات السياسية”. وأشار الى “أن هذه العائلة مسجّلة في نفوس علمان كما عائلات أخرى، وهي تقيم في كفررمان – قضاء النبطية منذ أكثر من سبعين عاما، وبالتالي فإنّ الزقّية مزرعة غير مأهولة ولا ملكية لهم فيها من قريب ولا من بعيد”، مشيرا إلى “ضغوط عديدة تُمارس على أعلى المستويات لوقف أعمال التحديد والتحرير في الزقية بالقوة والتي بدأت عام 2002، بغية الاستيلاء على أراضيها لمصلحة تملك الشيخ المذكور وشركائه”. ولا يزال آل ك. حتى اليوم يحاولون الاستيلاء على أجزاء من هذه المزرعة عبر تأجير أراض لا يملكونها للغير، بمساعدة الشيخ المذكور.
ومن الزقية إلى علمان المجاورة التي تبلغ مساحتها 5,4 ملايين متر مربع، اشترتها أيضا عائلتا الأصفر والزغبي مناصفة، تزامناً مع شرائهما الزقية والقصير وأراضي فرون التي هي كلها متلاصقة. وكان أفراد من العائلتين يمضون أوقاتاً متقطّعة من السنة فيها منذ عام 1925، ولا تزال منازلهم شاهدة على ذلك. إلا أنه منذ الاحتلال الاسرائيلي للجنوب عام 1978، لم تعد العائلات تستطيع الوصول إلى أرضها التي كانت تقع في وسط خط المواجهة الضارية، خصوصا في الشومرية ووادي الحجير الذي يقع جزء منه أيضا في نطاقها، والتي أدّت الى تدمير عدد من المنازل في علمان وحرق بساتين زيتون معمّرة، إلا انّها أوكلت حراستها الى عائلتي الباريشي وعواضه من علمان لزراعة هذه الاراضي وحراستها حتى عام 1998 (بحسب دائرة النفوس).
وبعد الانسحاب الاسرائيلي عام 2000 واكتشاف عمليات التزوير التي حصلت خلال تلك المرحلة، لجأت العائلتان إلى القضاء، بحيث صدرت قرارات من النيابة العامة في 2001 و2002 و2003 بمنع آل ك. من دخول علمان إلى حين انتهاء الدعاوى المدنية، فأُخرجتهم القوى الأمنية ثلاث مرات من الأراضي مع مواشيهم، وختمت المنازل بالشمع الأحمر”.
وأضاف: “حصل أفراد من عائلة ك. على إفادات كاذبة من مختار المنطقة اثناء الاحتلال الاسرائيلي، لوضع اليد على أراضي علمان تحمل أرقاما من 103 إلى 122، في حين أن لهذه الأراضي سندات تمليك منذ عام 1925 تحمل أرقاما من 1 (واحد) الى 106 فقط لا غير. وبالتالي فهم أعطوا أرقاما لسنداتهم بالمحتوى نفسه لسندات العائلتين، ولم يتنبهوا الى أن السندات 103 الى 106 موجودة منذ عقود، وأن مستندات آل الزغبي وآل الأصفر تنص على أن الأراضي التي تحوط هذه السندات هي “ملك صاحب السند”، أي آل الزغبي وآل الأصفر، وأن العلم والخبر من كل المخاتير المتتالية تاريخياً، يفيد أن هذه الاراضي ملك آل الزغبي وآل الاصفر لا غير. فكيف يجوز “اختراع” سندات جديدة؟ وكيف يحاولون تملك شيء يملكه آخرون؟” وأشار الى “أن المختار الذي ساهم في عملية التزوير والاستيلاء على الاراضي (أثناء الاحتلال الاسرائيلي)، هو نفسه أقرّ سابقا بملكية العائلتين للأراضي التي استأجرها منها بنفسه في الستينات والسبعينات”، كاشفاً “أن أفراداً من العائلتين تعرّضوا لضغوط وتهديد وصلت الى حدّ اطلاق النار مرارا على النواطير. وجرت متابعة القضية قانونا وسُجن في إحدى المرات مطلق النار، إلا أنّه خرج بعد شهرين نتيجة تدخّلات سياسية. والأخطر من ذلك، أنّه بعد تعيين مختار لمزرعة علمان من وزارة الداخلية لإكمال عملية التحديد والتحرير، ضغطت عليه قوة سياسية ليستقيل وعيّنت مكانه مختاراً آخر موالياً لها!”.
أما قرية القصير المجاورة لهذه الأراضي، فهي أيضا ملك آل الزغبي والأصفر. وتبلغ مساحتها 6,1 ملايين متر مربع، وتسكن فيها أربع عائلات، بعضها كان يملك جزءاً من القرية منذ أوائل القرن العشرين بنسبة 400 سهم من أصل 2400، فيما تعود ملكية القسم الأكبر أي 2000 سهم الى آل الأصفر وآل الزغبي مناصفة، وقد اشتروه في الأعوام نفسها التي اشتروا فيها علمان والزقية وأراضي فرون. ولكن مع مرور السنين، توسعت محاولات الاستيلاء على أراضي العائلتين، ممّا اضطرّهما إلى منح جميع سكان المنطقة أراضي إضافية مراعاة لوضعهم، بموجب عقود لدى الكاتب العدل تملّكوا بموجبها 150 سهماً واعترفوا مجدداً بملكية آل الزغبي والأصفر للأسهم الباقية البالغة 1850 سهماً، والتزامهم وقف التعديات. وعلى رغم ذلك، لم تتوقّف التعديات وتابع بعض الأهالي بناء منازل من دون رخص، كما أنّ بعضهم يواصل محاولاته الاستيلاء على أراض أخرى بدعم من جهات حزبية”، على قول الزغبي الذي طالب بـ”وقف التعدّيات على أملاك موكّليه الذين حرمهم الاحتلال الاسرائيلي الخارجي 28 عاما الإفادة منها، ليأتي احتلال داخلي بوجهيه السياسي والديني، للاستيلاء عليها بذريعة الحق المكتسب المزيّف بأنّها أراض لمسيحيين تقع في مناطق إسلامية!”.
محاولة استيلاء جديدة
محاولات الاستيلاء على الارض مستمرّة وتتّخذ كلّ مدة طابعا جديدا علّ “الطامعين” يصلون الى مآربهم، الا ان العائلتين بالمرصاد عبر الطرق القانونية، وجديد هذه المحاولات بناء جامع منذ نحو ثمانية أشهر في أرض علمان علّه يكرّس أمرا واقعا، فبدل أن يكون الجامع مكانا يجتمع فيه المؤمنون للصلاة، استُغلّ لمآرب أخرى، إذ لا سكان قد يستخدمونه للصلاة، ولكن بعد المتابعات القانونية توقّف العمل فيه منذ اربعة اشهر.
وفي سياق متّصل، تردّد أن عائلة أصفر باعت حصّتها من مواطن شيعي علّها تنفد من الضغوط السياسية، إلا أنّ الأمر غير مثبت حتى الساعة في الدوائر العقارية، في حين أن عائلة الزغبي تقول انها في أي حال “ماضية في الدفاع عن أرضها وحقوقها، وملاحقة كل المعتدين حتى ولو كانت تحميهم جهات سياسية ودينية نافذة”. وتسأل: “من يستطيع الدفاع عن المسيحيين وأملاكهم في الجنوب، وهم أقلية، حين يتكتل السياسيون والطامعون المحليون ضدّهم ويستعملون كل الوسائل لإخراجهم من أراضيهم ومحاولة الاستيلاء عليها؟”.
روزيت ضاهر
النهار