لكثيرين، لم تعد مسألة “طوبى”، تلك “الطوبى” التي رفعها السيد المسيح 11 مرة، يوم “صعد” الجبل “وجلس” و”شرع يعلّم” تلاميذه. باتت لغة الواقع الاسود: تسليح المسيحيين ملحّ ليدافعوا عن وجودهم في لبنان والشرق، في مواجهة الوحش “داعش”. في السنة 2014 ايضا، شُرِّدوا مجددا، قُتلوا، سُلبوا ارزاقهم، طُردوا، هُدِّدوا… تماما كالبدايات. “احبوا اعداءكم وصلّوا من اجل مضطهديكم (متّى 5/44)، يوصي المسيح. المحبة، والمحبة فقط. ولكن مهلا! المسألة فيها نظر!.
انها الركن. من “التطويبات”، او ما يُعرف بـ”عظة يسوع الكبرى”، يستقي اتباع المسيح كل السلوك، كل المضمون. انها احد النصوص الاساس في تعاليم المسيح. ولعالم اجتماع الاديان الاب توم سيكينغ اليسوعي، الامر محسوم: “النص لا يمكن ان يتضمن عنفا في اي شكل. صانع السلام يجب ان يعمل من اجل السلام، وليس العنف. وليست لدى الودعاء والفقراء وسائل للقيام بالعنف. كل سلوك يسوع المسيح هو ان يكون في النهاية في خدمة الانسان. الخدمة هي الاساس، وليس العنف قطعاً. المسيح لم يفرض نفسه بالعنف. إقترح، وترك للآخرين حرية الاختيار في اتباعه او عدمه”.
في المسيحية اذاً، اللاعنف موقف “جذري” حازم. “العنف هو عكس المحبة. المحبة تقتضي احترام الآخر وما هو عليه”، يشرح سيكينغ. “بهذا الاحترام، نحاول ان نحب الآخر، ان نفهمه. ولكن لا نفرض انفسنا اطلاقا. العنف والمحبة امران متعارضان كليا. الجواب اذًا بسيط. في المسيحية، لا وجود للعنف. وهذا المبدأ كبير ومهم”.
واذا كان المبدأ “بسيطا نسبيا”، غير ان الواقع ليس بهذا القدر من البساطة. “عندما يكون الشخص في موقع ضعف ويتعرض لعنف من الآخرين، فهل يمكن الدفاع عنه؟ يجب ان ندافع عنه”، يؤكد سيكينغ. على سبيل المثال، “ماذا يمكن ان يفعل اب لدى تهديد اولاده سوى ان يدافع عنهم؟ ولكن هل يكون الدفاع بوسائل عنفية؟”. التساؤل يفتح الباب على مناقشة تقود الى ابعاد اعمق.
في الواقع المأزوم جدا في الشرق الاوسط، انها مشكلة “عنف مفرط” جدا. “المسيحيون يرزحون حاليا، وبالتالي لا يستطيعون ان يقوموا بشيء كثير. لكن يمكن ان تكون لديهم مواقف غضب، وهي طبيعية في وضعهم، ويمكن ان تصل الى رغبة في الانتقام. انسانيا، وحتى مسيحيا، لنعط كل انسان الوقت للتطور. يكون لديه رد فعل اوّل، ثم ثان… ان يغضب المسيحيون المضطَهدون امر طبيعي. علينا ان نسمعهم اولا، ثم نحاول ان نمضي معهم الى مكان ابعد- ونرى اذا كان ذلك ممكنا- بهدوء، مع اتاحة الامكانات”.
■ ماذا عن مضطهدي المسيحيين وقاتليهم؟
– لدينا اوّلا الموقف القائل بالدفاع عن الضعفاء. واعتقد ان لدينا الحق، لا بل الواجب، في الدفاع عنهم. والسؤال: باي وسيلة؟
■ ولكن ألم يعطِ المسيح المثال، بدءا بالتطويبات، وصولا الى تخليه الكلي في صلبه على الصليب؟
– انها الطريقة التي نعتبر فيها الآخر. انه السلوك المثالي الذي يقترحه علينا المسيح، والذي نعرف جيدا انه ليس من الممكن غالبا تطبيقه عمليا في الواقع الملموس. نحاول تحقيق هذا الهدف، حتى لو انه صعب التحقيق واقعا وفي القريب العاجل. اذًا نحن مجبرون عمليا، رغما عنا، على القيام بعمل لنفرض ارادتنا بالقوة، في مواجهة من يهددنا ويحاول ان يفرض نفسه علينا. وهذا العمل ليس السلوك المثالي. واذا كان في وسعنا، نحاول التهرب منه”.
واقع دموي يرغم اذًا المسيحيين على التسلح، على مقاتلة الاعداء، لو اتيح لهم. وللامر حدّان. “اذا كان دافع ذلك (اي التسليح والقتال) الحاق الاذى بالآخر، فلا يمكن ان يكون الامر صحيًّا. اما اذا كان دافعه الدفاع عمن يتعرضون للاعتداء ويحتاجون الى من يدافع عنهم، فقد يكون الامر مبرراً، ولكن عندئذ سيكون معقداً. لماذا؟ لانني قد اشعر بان لدي الحق في الدفاع، لاعتقادي بأنني على حق، والآخر على خطأ. المشكلة هي في جدلية من على خطأ ومن على حق”.
في البحث في تلك الجدلية، يستعيد سيكينغ الحرب الاهلية في لبنان، كذلك الحروب التي شنّها المسيحيون باسم المسيح عبر التاريخ، وصولا الى مواقف البابا فرنسيس. بصدق المصارحة، يرسو التفكير البشري على: “لدي الواجب في الدفاع عن رأيي وعائلتي ووطني. اذا تعرضت لاعتداء عنيف، فعلي ان ارد بالعنف ايضا. والمنطق البشري يعرف، في الخبرة، ان العنف يولد العنف. دائرة العنف ليست ابدا حلاً، ولكن يجب الدفاع عن الحياة. ونحمل السلاح، رغما عنا، لاننا نعرف اننا مهددون”.
■ ماذا عن وصية “لا تقتل”؟ ان يَقتُلَ المسيحي عمل مبررٌ امام الله؟
– ثمة مبدأ بسيط للغاية في الانجيل. “لا تدينوا لئلا تدانوا” (متّى 7). عدل الله ليس كعدل الناس. انها طريقته في الفعل. انها الازدواج في العدل والرحمة. الله عادل، وفي الوقت عينه رحوم. في العقل البشري، العدل والرحمة يتعارضان، ولكن لدى الله، الاثنين موجودان معا.
في توصيف صريح للواقع، ما يقوم به مقاتلو “الدولة الاسلامية” بشع، كريه، مرعب، اليم. “علينا ان نسأل كيف وصلوا الى ما هم عليه. وراءهم تاريخ، ولديهم تربية. لقد تم تلقينهم. واذا امكننا فهمهم، فقد يزيل الكره تجاههم في مكان ما. ما يقومون به بغيض، انه العنف الصرف. وما يسعون اليه هو التسبب بالرعب، لاثارة عنف متبادل، وعلينا ان نحاول عدم الوقوع في هذا الفخ بالقيام مثلهم. يجب الا نفعل مثلهم. نعم للدفاع عن الحياة. ولكن لا للقتل المجاني”.
هالة حمصي / النهار