هل يعقل بعد 14 قرنا من العيش المشترك تطرح «الأصوليات» الإسلاموية مسألة «مجتمع مسلم» أي بدون مسيحيين؟! وهل يعقل أن تخلو القدس بل والشرق الأوسط من أتباع الفدائي الفلسطيني الأول (السيد المسيح)؟! هؤلاء، وبطرحهم تغييب المسيحيين، يفقد العالم العربي ميزته كأمة ذات طبيعة قومية. فالأمم الحديثة، حتى وإن كان الدين عنصرا حيويا في وجودها، فإنها إن قامت على أساس ديني تجد نفسها في حرب مع كل دين آخر. وهذا ليس من الاسلام (أو المسيحية) في شيء. فضلا عن ذلك، مثل هذه التوجهات تصب في فلسفة «دولة إسرائيل» القائمة على العنصرية البغيضة التي ترفض الآخر وتقصر الدولة على أبناء الدين الواحد «اليهودي» فقط. ولنعترف بحزن! هذه الأيام تزايد عدد المسيحيين الراغبين في الهجرة مع ظهور ما بات يعرف «بالإرهاب الإسلامي» ضد المجتمعات الغربية، ما أدى في الغرب إلى الخلط بين الإسلام الحقيقي المعتدل والمتسامح وبين «الإسلام الإرهابي»، وبالتالي طرحت هناك مقولة عدم إمكان العيش المشترك مع الإسلام الذي سبب نزوح المسيحيين من البلدان ذات الأكثرية الإسلامية، فجرى استغلال هجرة المسيحيين إلى الغرب، مضافة إلى «الإرهاب الإسلامي»، لترويج الحقد على الإسلام والمسلمين وتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.
إن مجرد فكرة شرق أوسط خال من المسيحيين فكرة مرفوضة في العقل وأعماق الوجدان. وفي الاراضي المقدسة الواقع مؤلم والمخاوف كثيرة تجاه مستقبل المسيحيين. لكن من المؤكد أن المسيحيين عليهم أن يكونوا كما يقول بطريرك اللاتين في القدس وسائر الأراضي المقدسة (فؤاد طوّال): «نعيش في الأرض المقدّسة وضعًا صعبًا نلمسُ آثارُه على جميع سكّان الأرض المقدّسة، وعلى المسيحيّين مثل غيرهم. والحل ليسَ في الهجرة والرحيل ولا في القوقعةِ والانغلاق، الحلُّ هو أنْ نبقى هنا وأن نعيش هنا وأن نموتَ هنا». بل إن قداسة بابا الفاتيكان جمع بطاركة الشرق وأطلق وإياهم نداء حارا مشوبا بالقلق، حيث قال: «لا يسعنا أن نفكر في شرق أوسط خال من المسيحيين الذين منذ نحو ألفي عام يبشرون باسم المسيح وهم مواطنون مندمجون في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية لأممهم».
وإن كان مسيحيو الشرق في محنة، فمسيحيو فلسطين في ثلاث. أولها محنة الاحتلال الإسرائيلي التي تصيبهم بقدر ما تصيب إخوانهم الفلسطينيين المسلمين، والمحنة الثانية هي الخاصة بما يقارفه الإسلاميون التكفيريون في عديد المناطق العربية، فيما المحنة الثالثة هي محنة «الاحتلال اليوناني» المتمثل في بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية، التي اعتادت على بيع ممتلكات تعود للكنيسة بالقدس الشرقية لمستثمرين يهود استعماريين/ «استيطانيين». وحقا، فإن معركة «رعايا» الكنيسة العرب مستمرة ضد ما أسماه عديدون («الاستعمار الديني اليوناني»)، وهو واقع مرير مستمر منذ القرن السادس عشر، حيث يستمر استنزاف الرهبان اليونان للممتلكات العربية المسيحية وأوقافهم في الأراضي المقدسة.
وفي هذا السياق، تستمر احتجاجات أبناء الطائفة الأرثوذكسية في الأردن وفلسطين تؤكد على الحقوق التاريخية لابناء الكنيسة الارثوذكسية المقدسية العربية الممتدة على اراضي الاردن وفلسطين، داعين الى ضرورة متابعة العمل وصولا الى النهضة الارثودكسية الشاملة ووقف التهميش وسياسة الإقصاء التي تعتمدها البطركية الأرثوذكسية اليونانية في القدس. وفي بيان صدر قبل أيام، أكدت «الجمعية الارثوذكسية» على «أن السكوت لم يعد مجديا على طريقة تعاطي البطريركيّة مع أبناء الكنيسة ومع الكهنة العرب، وتهميش دورهم وإقصائهم، وتهديد وتهجير أبناء الرعية ممن يسعون للرهبنة، والاستمرار في ذات المسار المهين المسيطر على مفاصل شؤون الكنيسة والتفرد المطلق (يونانيا) في القرارات الإدارية». وكان العرب المسيحيون يأملون باستعادة الأوقاف والأراضي التي فرطت بها البطريركية للاحتلال، إلا أن السياسة القائمة في البطريركية هي سياسة بعيدة كل البعد عن العلاقة الأبوية والرعائية.
رغم كل ما يحاك من مؤامرات، يبقى المسيحيون جزءًا لا يتجزأ من الأمة العربية، مشاركون في الهموم، ومؤكدين صمودهم في الخندق نفسه مع المسلمين. ومن أراد شواهد على ذلك فإن أمامه مواقف ونضالات مسيحيي فلسطين (وغيرها) التي خاضت مقاومة ضروس ضد سياسات الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة تجاه ما يتعرض له القدس الشريف والمعالم الإسلامية التاريخية.
د. اسعد عبد الرحمن
نقلاً عن “الرأي” الأردنية