عاش المسيحيون في العراق منذ نحو ألفي عام، لكن الارتفاع العنيف للدولة الإسلامية أقنع العديد منهم بترك وطنهم إلى الأبد.
طيف حنا مهندس من مدينة الموصل قال للصحفيين: “لا، لن نعود مجدّداً … داعش حاولت قتلنا، وعرضت جماعة مسلحة ثلاثة خيارات: اعتناق الإسلام أو دفع ضريبة باهظة أو الموت، لذا علينا جميعاً الفرار من العراق”.
برزت الدولة الإسلامية في العراق عام 2014، وفي حزيران استولت على الموصل، المركز التاريخي لمسيحي العراق على نهر دجلة، حيث كانت مدينة نينوى القديمة.
طيف حنا واحد من نحو 47 مسيحي عراقي ممن لجأوا في مبنى تم تحويله لصالح كنيسة القلب المقدس في ناعور، وهو حي في الجانب الغربي من عمان.
قُسِّم المبنى إلى غرف صغيرة. بالقرب من المدخل لوحة بيضاء تحمل نقشاً مكتوباً بالعربية: “طوبي للمضطهدين من أجل البر”. بجانب اللوحة البيضاء صورتين، تُظهِر واحدة وجه العذراء مريم وخدّيها ملونة كما لو أنها تبكي دماً، ومكتوب: “دموعك تطهّر كل مكان، إنها إنجيل من الحب والرحمة والنور”. ويظهر في الصورة الأخرى صليب كبير في صورة ظليلة، وخلفه شمس ساطعة في شروقها أو غروبها.
معن جورج حنّا، والد طيف، ويبلغ من العمر 52 عاماً، يقول: “سأترك كل تاريخي هناك بسبب الإرهاب. ليس لدينا ثقة في الحكومة أو في أي شيء أبداً وإلى الأبد”. وقال حنّا أن جدّه كان خادماً في أقدم كنيسة في الموصل. بدأت الكنيسة عام 360 “أي قبل أكثر من 1600 سنة… لقد تركنا كل ذلك. تركنا كل تاريخنا. لا نريد العودة. نريد السلام”.
حنّا وزوجته وأبنائه مهندسون من الموصل حيث كان والده يدرّس اللغة الانكليزية. درس حنّا في رومانيا وإيطاليا وإسبانيا، ويتحدث لغات الدول الثلاث بالإضافة إلى الانكليزية والعربية.
فرّ مع عائلته من الموصل في أوائل حزيران عندما علموا أن الإرهابيين يعبرون نهر دجلة، على بعد 10 إلى 15 دقيقة عنهم. “لقد غادرنا بهذه الملابس” قال حنا هذا مشيراً إلى لباسه “غادرنا منزلنا وتركنا سيارتنا وكل ذكريات أطفالنا”. هربوا إلى إربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وانضموا إلى 30 نازح في شقة صغيرة، ولم يكن لديهم ما يكفي من المال للسفر خارج البلاد.
المجموعات الكاثوليكية، مثل كاريتاس الأردن، ساعدت حنّا وبعض أفراد عائلته للسفر إلى الأردن، إلّا أن والده ووالدته وشقيقه لم يستطيعوا الخروج لعدم امتلاكهم جوازات سفر “أبي وأمي مسنّين، عمرهما أكثر من 75 عاماً. لم يكن لديهم فكرة للسفر وترك منزلهم”. ومن أواخر تشرين الثاني وأسرة حنّا تطلب المساعدة من السفارة الفرنسية “نجهل المستقبل.
ونأمل بمستقبل لأطفالنا فقط”. وقال أن عائلته سبق و أُجبِرت على ترك المنزل عدة مرات في 2008 و 2009 بسبب الخوف من العنف، فقد عانى مسيحيو العراق من المشاكل لعدة عقود. وقال أن بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 كانت نقطة تحول للأسوأ “كنا سجناء في بلادنا، خاصة المسيحيين”. وروى أنه عندما كان أحد أبنائه في المدرسة ويذكر الاسم الأوسط لوالده (جورج)، كان زملاؤه المسلمون يضحكون بسخرية لأنه ليس اسماً إسلاميا، “هل نعود؟ لا”.
قبل إعدام صدام حسين عام 2005، كان عدد المسيحيين في العراق 1,6 إلى 1,8 مليون، أما الآن لا يوجد سوى ما يقدر بنحو 400,000 إلى 450,000 مسيحي.
ميثم نجيب، مسيحي عراقي آخر ومقيم في الأردن، ميكانيكي يبلغ من العمر 36 عاماً من بغديدا، وهي مدينة مسيحية في معظمها، تبعد حوالي 20 ميلاً عن الموصل.
كان نجيب يقيم في مأوى في كنيسة القديس أفرام السرياني في منطقة عمان، قال: “حتى الآن لم نعاني كما عانى المسيح، هذا ليس شيئاً بالمقارنة مع ما فعله من أجلنا”.
يعيش الآن نجيب وزوجته وأطفاله الثلاثة في ظروف صعبة مع عشرات اللاجئين الآخرين في ملجأ الكنيسة. والده ووالدته واثنتين من أخواته لازالوا في بغداد، لكن عودته إلى العراق ليست خياراً بالنسبة له، “نحن لا نرغب في ذلك”.
وحتى قبل ظهور الدولة الإسلامية، قال نجيب أنه كان ضحية لأعمال العنف في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. كان يعيش في بغداد عام 2005، عندما اختُطِف واحتُجِز لمدة ثمانية أيام من قبل مجهولين، أطلقوا سراحه بعد أن سرقوه وطعنوه عشرات المرات. وأضاف: “نحن ممتنون للحكومة الأردنية ومؤسسة كاريتاس لما يقدموه لنا … لكن الوضع ليس جيداً. فلا يمكن أن يعطونا كل شيء. لقد انتهى الأمر بالنسبة لنا في هذا العمر. نحن نريد ضمان مستقبل أطفالنا، فالتعليم وكل شيء لهم بشكل خاص”.
الاب رفعت بدر الذي يشغل منصب مدير عام المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام تحدث عن وضع اللاجئين وقال: “إنهم يعانون لأنهم مسيحيون” وأضاف:” الإيمان هو الكنز الرئيسي لدينا. عندما ترى أن هؤلاء الناس وهذه العائلات وجدت طريقة للهروب دون المال ودون الذهب ودون جوازات السفر، هذا يعني أن الإيمان هو أكثر أهمية من المال ومن الذهب ومن كل شيء. حقّاً إنهم معلّمون”.
وتابع: “إنهم أناس عاديون ولطفاء جداً وفخورون بإيمانهم. كان من الممكن أن يصبحوا مسلمين في لحظة واحدة، لكنهم رفضوا” وهذا لم يكن “بسبب كرههم للمسلمين أو الإسلام، بل لأنهم أرادوا أن يبقوا على إيمانهم لأنه جزء من هويتهم. يريدون أن يثبتوا في إيمانهم. هذا مهم جداً، إنه درس عظيم لنا جميعاً”.
وقال الأب بدر أن اللاجئين في الأردن “يشعرون بالحرية وبأنهم جزء من الكنيسة عندما يقرأون الإنجيل أو القراءات في القداس… لهجتهم مليئة بالحزن، لكنها أيضاً مفعمة بالأمل”.
يتذكر الأب فتاة مسيحية من الموصل قالت قراءات القداس بعد وصولها. كانت القراءة من رومية 8 :”من يفصلنا عن المسيح؟” قال الأب: “لا الموت ولا الاضطهاد ولا داعش يمكن أن تفصلنا”. وأشار إلى أن ما فعله اللاجئون في حفظ دينهم هو “جزء بطولي لتاريخ الكنيسة”.
وقال: “سيكون الناس فخورين أن هؤلاء المسيحيين غادروا بلادهم، لكنهم بقوا على إيمانهم. هذه هي عظمة المستقبل”. وأقرّ الكاهن أن اللاجئين لا يريدون العودة إلى العراق: “بالنسبة لنا، فمن المحزن أن نسمع ذلك”، فبينما يحلم اللاجئون الفلسطينيون بالعودة إلى الوطن بعد 60 عاماً من تشريد إسرائيل لهم، العراقيون يشعرون أن شيئاً ما مات بداخلهم، لا يريدون العودة، يحبون وطنهم لكن ما حدث قد أصابهم في أعماق القلب.
وقال الأب بدر أن الملك عبدالله الثاني ملك الأردن و بعض القادة العرب الآخرين تحدثوا علناً ضد اضطهاد المسيحيين. لقد عمل كل من المسيحيين والمسلمين الأردنيين لمساعدة اللاجئين الفارين من الدولة الإسلامية.
كانت معاناة اللاجئين نقيضاً للمسيحيين الأردنيين الذين عاشوا في سلام.
“أحياناً نشعر بأن إيماننا لا يواجه أي مشاكل سياسية حقيقة. هذا جيد، لدينا كل ما نحتاجه. نشكر الله على هذا، ونشكر القيادة … لكن علينا أن نتعلم من هؤلاء الناس ونكون جاهزين لأي طرق جديدة للصليب”.
CNA/EWTN، ترجمة اليثيا