الموصل مدينة التسامح عبر الزمان، توأم نينوى الأشورية وموطن ذي النون يونان النبي عليه السلام، الجالسةُ تجاهها عند ضفة دجلة، عرفت المسيحيةَ منذ قرنها الميلادي الثاني، اذ واجهت غزوات الفرس الساسانيين.
الموصل تحولت اليوم الى بركان دم وبقعة للكراهية سوداء تضاف إلى عتمة الدماء والذهنية القابيلية، التي سَجّلَت أول جريمةِ قتلٍ بين البشر.
هذه الموصل، أمّ الربيعين، هي المدينةُ المزينةُ بأبناءِ عمومتنا شمُّر وطيّء وغيرها من العشائر العربية الكريمة الذين تربطنا بهم أواصرُ العروبة، دماً ولساناً، والتوحيدُ والوحدةُ، يشوَّهها اليوم السوداويون «قليلو الأصل» من مدّعي الأصولية، البعيدون عن الأصالة، أدعياءُ العقيدة، وأعداءُ السماءِ والحضارةِ والنخيلِ، وما بين النهرين.
موصلُ اليوم وعلى امتداد سهل نينوى، حيث العودة من جديد إلى إرثٍ اكثر فظاعةً من جريمة قابيل، أحالها فعلُ كارهي الإنسانية وأعداءِ الحياة إلى مرتعٍ حالكٍ بالظلمة والظلم، يُستساغُ فيه سفكُ دمِ مسيحييها ورثةِ الأشوريين وكلدانيي ما بين النهرين، الذين اُستهدفت فيه أموالُهم وأرضُهم، وملَّتهُم وغائبُهم وشاهدُهم، وكلُّ ما تحت أيديهم.
في موصل «القرن الحادي والعشرين» تطالُ الأيدي الحاقدةُ المجرمةُ رهباننا الساجدين في صوامِعهم، وتُسفكُ دماءُ خُدّام هياكل كنائسنا الذين لم يشفع لهم وقوفُهم التّقويُّ بين يَدي خالقهِم مرتلين آياتِ إنجيلهِ، ومهللين تسابيح التمجيد، والشكر والسجود، ظنّاً من قاتليهم الداعشيين أنهم يقدمون لله قرباناً..
اليوم وكما في كلّ يوم نقول لكل مرتكبي الجريمة وفاعلي الشر، إننا سنظل نقرأ، ولن نملّ القراءة، أولَ عهدة مودّة إسلامية مع أحبار نجران ومسيحييها، قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، وكيف مُنِعَ فيها على المسلم أن يُغيَّرَ أسقفٌ من أسقفيته أو راهب من رهبانيته..
ونقرأُ قبل أربعة عشر قرناً كيف حدّد الاسلامُ حرمة رمضان ليكون أكثر قدسية بين الأشهر الحرم-ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر، وليكون موسماً مقدّساً للسَلْم والمصالحة واظهارِ الطاعة لله بالصوم والصلاة وإقامة الذكر، تصانُ فيه كما في باقي أيام الله حرمةُ الدماء والأعراض.
***
في شهر رمضان الفائت تَوقَّفنا هنا في هذا الأردن مع اخوة لنا صاموا رمضان واستذكروا في صومهم آلام ومعاناة الفقير والمحتاج والمسكين وسمعناهم يرددون آيات الكتاب ورأيناهم يعطون مما أنعم الله.. وفي الوقت الذي كان يتسابق مسيحيونا في إظهار المودة-وهم الأقرب مودة-إلى المسلمين الصائمين في الشوارع وعند المنعطفات والاشارات الضوئية ويقدمون مع كل شُربةِ ماء وحبة التمر ابتسامة المودة والاحترام عند الغروب، رأينا في موصل التاريخ كيف يُدَنِّس مُدّعو الإيمان حرمةَ شهر العبادة والطاعة بقتل المسيحيين الأبرياء فكُنّا نحن هنا في الأسابيع الأخيرة الأكثر توجعّاً عندما تلاقت أرواح اخوة قضوا على تراب غزة هاشم تحت طغيان قنابل الكراهية والعقد مع أرواح إخوتنا (المصلاويين) الذين قُتلوا وهُجروا واجبروا على ترك بيعهم واموالهم.
***
في سيرة الموصل، نقرأ، ونحن لا نملّ القراءة، كيف أتى السوداويون في حزيران وفي ظلال حرمة شهر الصوم ليروّعوا الأقلية الاشورية الكلدانية وغيرها من مكوّنات مجتمعٍ عُرف عنه التعايش على مدى القرون، ليعطي رجالُ الدماء واعداء التسامح دروساً في السوداوية والكراهية والانغلاق والتطرّف والعنف وحبّ الدماء فتبدو معها كلُ جهود التآخي الانساني والوئام الديني خرافَةً لا يُبشِّر بها سوى الحالمين الواهمين!
***
اليوم.. ماعسى أن يجيبَ أهلُ العراق وسط كل هذه المخاوف والتداعيات المحزنة إن سُئلوا عن «إخوانهم في الدين ونظرائهم في الخلق؟»
ماذا سيقول المسلمون لمسيحييهم الذين رفضوا كلَّ مسالك العَزْلِ والانعزال وخطابات التخويف، ورفضوا كلّ استدراج لحماياتٍ دولية وتدخلات خارجية داخل اوطانهم؟
ماذا سيقول الإخوة علماءُ المسلمين لأولئك الذين ما زالت تسكنهم نزعات تغليب الأكثرية العددية على مكوناتٍ أقل عدداً وليست أقليات؟
وإذ نقرأ في صفحات «حلف الفضول»، ونحن لا نملّ القراءة نسأل: ألا يوجد «فضلٌ» واحد للمسيحيين ليُذْكر، فيكون للظالم خصماً وعليه حجةً وللمظلوم عوناً؟
إن ما يواجُهه الوجودُ المسيحي المشرقي من تهديدٍ ليس في صالح الأمة، وهو وجودٌ عليها واجبُ الحفاظِ عليه واحتضانه. فكيف يطمئن المسيحيون، وهم الأقرب مودّة، على مسيحيتهم وكرامتهم وحريتهم وعقيدتهم؟ ففي غياب هذا المكون الأساس من المجتمع العربي إظهارُ أنَّ المسلمين قومٌ لا يقبلون أن يظلّ بين ظهرانيهم مواطنوهم المسيحيون.أما تهجيرهم من أرضهم فهو ضربةُ موجهة ليس لحضورهم وشهادتهم بل إلى العرب والمسلمين جميعِهم في ماضيهم وحاضرهم وما يعنيه ذلك من ضمور في شخصيتهم الحضارية.
في هذا الوقت نؤكد مع المسلمين (وجُلُّهم من أهل الاعتدال والمودة) أنه لا يجوز أن يُسمح لشرذمةٍ كارهةٍ ومُكْرِهَةٍ أن تُفسد هذا الوئام وتجرّ الفتن والويلات لتقيم حاضراً متخلفاً جاهلياً وتسقط مستقبلاً ينتظره اطفالنا وأولادنا بل البشرية كلها..
فماذا تنتظرون يا علماء الامة وقادتها المخلصين لتأدية رسالتكم ووالقيام بدوركم وعرض شهادتكم..؟
ويا حكماءنا ومثقفينا ويا أصحاب القلم والمكانة.. اين انتم اليوم من هذا الذي يجري حيث تختطف الأمة وقيمُها لتُوأَدَ حيَّةً تحت انظار الجميع ؟ فهذا الذي يحدث ليس غمامةَ صيفٍ عابرة بل عاصفةٌ جارفةٌ وآفة ماحقة ساحقة لا تستهدف المسيحيين فقط. إنه جريمةٌ ينبغي تَوقُفها وإيقافها ومواجهةُ انتقال عدواها إلى دول الشرق. فهذا العمل المشين يشكل نكسةً تصيب المنطقة العربية والاسلامية في عيش ابنائها معاً ومع الآخرين وتُقَّوض مكتسباتهم الدينية والحضارية والإنسانية والوطنية.
إنه خَطرٌ على اخوتكم المسيحيين، ويُهددَ أيضاً كل اعتدال ووسطية، والصمت حيال اقتلاعهم من جذورهم مرفوض بل انه لمريب.
فماذا ننتظر ؟
وما موقف شعوبنا العربية من تعايشٍ كان ويجب أن يبقى العلامة الأبرز في طبيعة العلاقة بين المسيحيين والمسلمين ؟
بل متى سنرفض جميعاً أي تعاطٍ طائفي او مذهبي مع قضايانا الوطنية الكبرى وتحديات وطننا العربي ومصيره؟
وأين المدافعون عن الهوية العربية والوطنية التي تتوزع في مأثرها ومسؤوليتها بالتساوي على الجميع ؟
ان هذه الآفة أياً كانت دوافعها، تتطلب مبادرات اسلامية ودولية عاجلة يدعمها المسيحيون وذوو الارادات الصالحة كما تتطلب من المرجعيات الاسلامية إعادة التأكيد على تحريم الاعتداء على المسيحيين وغيرهم من الأبرياء، كما هو فقه الأئمة، وهم في ذلك يفعلون خيراً اولاً بالدفاع عن اعتدال الاسلام ووسطيته والتأكيد على تحريم قتل النفس البريئة التي قدستها الإديان السماوية.
أما نحن مسيحيي الأمة فعلينا أن ندرك أن رسالتنا لا يحدّ منها واقع حجمنا العددي.. وأن جوهر وجودِنا هو شهادتنا، وبفعلنا الروحي وحضورنا الإنساني وبثقتنا بأنفسنا وبمجتمعنا نحقق واقعاً نوعيّاً يحل محلّ الواقع العددي تزول معه مخلفات وضع الأقلية في التاريخ وما تركته من رواسب، وذلك بالابتعاد عن كل انكفاء وانعزال أو ذوبان. فمسيحيونا الأولون، الذين نشأوا في بلادنا رفضوا أن يكونوا «الأقلّية» بل استحقوا بحيويتِهم وحماستهم ووطنيتهم وانتمائهم وصدقهم احتراما مستحقّاً واندهاشاً من إخوتهم المسلمين. فنوعيّة حضورنا وشهادتنا لا عددنا هي التي قررت وتقرر دورنا وتشكِّل نظرة أقراننا ورضعائنا إلينا.
***
وهنا في الأردن الهاشمي، أنموذجِ التعايش والتسامح واحترام الآخر، وصاحب الإرث الذي وَقَّرتْ فيه الأمةُ أحبارَها وغساسنتها وسريانها وكلدانها وأقباطها، في الاردن وطن إيلةَ وأسقفها يوحنة ابن رؤبة الذي أمّنه، ومعه «أهل الشام واليمن وأهل البحر» الرسولُ العربيُّ، على مالهم وكنيستهم وحرياتهم، نقدم النموذج اليوم وكل يوم.. وسنبقى نقدمه، لأننا شهوده-والشهادات أصدقها تلك التي يقدمها المؤمنون- وسنظلّ نردد بفخرٍ سيَر المودّة في وطننا وما أكثرها، ولسان حالِنا يقولُ لكل الذين امتلأت قلوبهم بالتعصّب والكراهية
خَلُّوا التَّعَصُّبَ عَنْكُمْ وَاسْتَوُوا عُصَبَاً عَلَى الوِئَـامِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ تَعْتَصِبُ
في الأردن، حيث نعيش في وطن أمّن كلَّ أبنائه من خوفٍ وأشبَعهم من جوع، نستهجن ما يحدث ونتألم مما نرى، فكثيرون هناك يخيم الخوف عليهم في بؤر الاضطراب والدماء والمذلة والجوع وها هم يحزنون.
***
هذا نداء ندعو فيه لموقفٍ إسلامي وعربي ودولي عاجلٍ وواضحٍ وحازمٍ وبعيدٍ عن المواقف الخجولة والبروتوكولية يقوده حكماؤنا وعقلاؤنا وعلماؤنا. فما أصاب أهل الموصل وسهول نينوى وصدد وكسب ومعلولا هي جرائم إبادة جماعية وهي إساءات للإسلام والمسيحية والتوحيد يرتكبها مارقون دنّسوا قداسة لفظ الجلالة المكتوب على راياتهم السوداء!
***
أيتها الموصل الحدباء – يا مدينة ذي النون عليه السلام التي صار فيها لحرف النون( ن= نصارى) نكهة أوجدتها نازية جديدة-يا قصة عارٍ وحزنٍ وموتٍ وخزيٍ كتبها الكارهون مغتصبو السماء، وخصوم الانسانية وأعداءُ السلام والاسلام.. لك نقول.. سلامٌ عليك!!
عن أبونا