شكّل لبنان تاريخياً، ملاذاً آمناً لكل مضطهد في هذا الشرق، وهو البلد الذي يضمّ مجموعة أقليات، لذلك، كان الوجهة الأساسية لمسيحيّي العراق الهاربين من بطش «داعش»، كما أنّه البلد العربي الوحيد الذي يُشكّل للمسيحيين بقعة آمنة حرّة، لا تخضع لسيطرة الدكتاتوريّات أو التطرّف.
يبدو أنّ العراق يُواجه مسحاً لحضارته وثقافته التي تعتبر من أقدم حضارات العالم. فبعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين الذي حمى الوجود المسيحي في العراق، أتت حملة اغتيال المفكرين والأدباء والأكاديميّين العراقيين فيه، وسرقة آثاره وتدمير مكتباته، لتتبعها الحملة الأعنف وهي القضاء على الوجود المسيحي، الذي طالما شكّل رافعة حضارية وقيمة ثقافية وعلمية وتاريخية للعراق ودول الشرق. ومن هذا المنطلق، تلتقي «داعش» بتهجيرها المسيحيّين وترهيبهم مع حملة الإرهاب والإغتيالات التي تعرّض لها الأكاديميّون في العراق.
مساعدات
8 آلاف مسيحيّ عراقي وصلوا إلى لبنان، ولجأوا الى المراكز الدينية التابعة للكنائس السريانية والكلدانية في لبنان. وقد قامت بطريركية الكلدان وعدد من الجمعيات والأحزاب المسيحية بايوائهم، وتوزيع المساعدات لهم مثلما حصل بالأمس، حيث احتشد المئات من النازحين العراقيين الفارّين من العنف لأخذ المساعدات من مطرانية الكلدان في لبنان.
فاجتمعوا أمام الكنيسة حيث دقّق متطوعون تابعون للمطرانية بوثائقهم قبل إعطائهم المساعدات. وتوزعت المساعدات على الدعم المادي والمواد الغذائية والإستشفاء والبيوت. ويُقدّر المتابعون لهذا الملف أن عدد القادمين الى لبنان سيرتفع، ما يتطلب وضع آليات واستراتيجيات تحميهم وتتفادى أي أزمة جديدة.
لبنان ملاذ المضطهدين
أدخل الدستور اللبناني نصّاً يؤكد على حق التماس اللجوء هرباً من الإضطهاد، كما انّ القوانين اللبنانية تقرّ بالدخول والخروج من لبنان. إلّا أنّ هذا اللجوء له صفة موقتة، لأنّ لبنان بلد صغير المساحة وقليل الموارد، ولا يستطيع توفير مقومات اللجوء لكتل بشرية كبيرة، كما أنّ التركيبة الديموغرافية للمجتمع اللبناني لا تسمح بإدخال تعديلات عليها، لأنها حساسة جداً بالنسبة لنظام سياسي طائفي، تتصارع الطوائف فيه وفقاً لأحجامها، فضلاً عن مشكلة البطالة وصعوبة توفير فرص العمل والتقديمات الإجتماعية والضمانات اللازمة. ويعلم النازحون العراقيون أنّ لبنان هو محطة ترانزيت للإنطلاق منها إلى دول أخرى تُقدم لهم التأمينات والضمانات.
ومن هنا ضرورة أن تتحرك الحكومة اللبنانية لوضع آليات واستراتيجيات لتأمين الحاضنة للمسيحيين الفارين من الظلم والإضطهاد. كذلك، فإنه يقع على عاتق البطريركية المارونية مسؤولية الحفاظ على المسيحيين العراقيين في لبنان لإعادتهم الى بلدهم، وليس الإتكال على بطريركيّاتهم.
معاناة الوصول
مشهد وصول العراقيين الى لبنان كان مأسوياً. سليمة عزيز مسيحية عراقية وصلت منذ نحو الأسبوعين عبر سوريا. تنتظر في قاعة المطرانية الكلدانية في بعبدا، تحمل أوراقها في يدها، تكسو معالمها مظاهر الإرهاق والقلق، في عينيها ألم، تخفيه إبتسامة، وبصوت متردّد، تقول إنها «قدِمت إلى لبنان من أجل إنهاء أوراقها الثبوتية التي تمكنها من الرحيل في ما بعد، للإنضمام إلى أولادها في الولايات المتحدة الأميركية»، لافتة إلى أنها «لا تفكر في العودة إلى العراق، خصوصاً مع تضاؤل فرص حل الأزمة هناك».
وتشير عزيز الى أنّها «لا تعرف من تُحمّل مسؤولية ما يحصل في العراق». وتعتبر أنّ «الحكومة العراقية والشعب مسؤولان، ولا يمكن لأحد من غير الموجودين في العراق معرفة مستجدات المستقبل القريب». وتؤكد أنّ «الإرهاب يريد تسوية دولة إسلامية»، مشددة على «عزمها في ترسيخ إيمانها من دون فقدان الأمل، مهما حصل من تنكيل واستشهاد وإضطهاد».
تكتّم شديد
يتكتّم معظم العراقيّين الذين أتوا الى لبنان عن طريق هربهم وماذا حصل معهم خوفاً من إنتقام «داعش»، لأن لهم أقارب في العراق، وفي هذا السياق، ترى سندس خضر أنّها «مستعدة للذهاب إلى أي بلد آمن من أجل العيش مع زوجها وأولادها بسلام»، مشيرة إلى أنّ «الذي لديه إمكانات هاجر، فيما بقي عدد من المسيحيين الذين لا إمكانات لديه سوى البقاء بشكل خفي».
وتؤكد خضر أنّه «على رغم أعداد الشهداء الذين سقطوا، ما زال هناك مسيحيون متمسكون بأرضهم، لكنهم يعيشون في رعب وخوف وألم لا مثيل له»، مشيرة إلى أنّ «ابنتها بقيت مع زوجها وأولادها، لأنّ لا إمكانات إقتصادية تمكنها من تأمين معيشتها خارج الأراضي العراقية».
وتعتبر خضر أنّه «لا وجود لحكومة عراقية أصلاً، فهي صوَرية وبلا قيمة»، لافتة إلى أنّ «الدور الأساس الذي يترتب على حكومة ناجحة هو حفظ السلام والإطمئنان، وبناء دولة قوية حيث لا وجود للتفجيرات والتهديد والحرمان من الذهاب إلى الكنيسة للصلاة». وتشير إلى «أنّها لا تعلم السبب الذي يدفع البشر إلى التعامل مع بعضهم بعدوانية ووحشية وبلا رحمة»، لافتة إلى أنّ «ما يحصل يهدف الى إفراغ العراق والشرق الأوسط من المسيحيين من خلال دعم وتسليح المنظمات الإرهابية كـ»داعش».
ترانزيت… لبنان
يؤكد المسؤول عن ملف النازحين العراقيين في البطريركية الكلدانية الأب دنحا يوسف لـ»الجمهورية»، «أنّ لبنان هو بلد ترانزيت للاجئين العراقيين للوصول إلى أميركا وأوستراليا وغيرها»، مشدداً على أنّه «لا يمكن استمرار «داعش» في سوريا والعراق لأنّ الديكتاتورية مرفوضة من المسلمين والمسيحيين على السواء، ولذلك لا بدّ من تنظيم الحكومة العراقية نفسها بعيداً من الطائفية والمصالح واستجماع قواها لمحاربة «داعش» والقضاء عليه».
ويشير إلى أنّ «هجرة المسيحيين بدأت بعد سقوط صدام حسين في مناطق ومحافظات عدّة، أي في البصرة والموصل وكركوك وبغداد»، لافتاً إلى أنّ «الهجرة كانت قليلة عام 2004 ولكنها تضاعفت في ما بعد»، مؤكداً أنّ «عدد المسيحيين في العراق إنحدر من مليون وستة مئة ألف ليصل إلى 350 ألف مسيحي»، لافتاً إلى أنّ «العدد يتضاءل تدريجاً من جراء الهجرة «.
ويشدد يوسف على أنّ «السياسة الخارجية والداخلية في العراق هي المسؤولة عما يحصل من هجرة، بسبب غياب الأمان والعيش في خوف»، لافتاً إلى أنّ «العراقيين المسلمين أيضاً خائفون، ولهذا شمل النزوح نصف مليون مسلم في الموصل خوفاً من داعش».
مبادرات غربية مرفوضة
«مبادرة فرنسا خطرة جداً، لأنّ المطلوب هو حماية دولية بدلاً من التهجير». بهذه العبارة يُعبّر يوسف عن رفضه للطرح الفرنسي، مشيراً الى أنّ «الحماية الدولية التي حصلت سابقاً للأكراد جاءت نتيجة تحالف قوي بين فرنسا وبريطانيا وأميركا أدى إلى وضع خطّ فاصل بين الأكراد والنظام العراقي».
ويؤكد أنّ «الكنيسة في لبنان تُقدم الكثير من الدعم والحملات للعراقيين في لبنان، وتؤمّن الحاجات الضرورية والأساسية والخدمات لهم، وتُدخل الأولاد إلى المدارس وتؤمّن أماكن للسكن وفرص عمل، وتزور العائلات بشكل منتظم وتهتمّ بالشباب وتنظم حفلات وسفرات ترفيهية، وتحاول قدر المستطاع إخراج العائلات من الهلع والقلق»، لافتاً إلى أنّ «الإهتمام ينصبّ أيضاً على تأمين معالجات نفسية للأشخاص المحتاجين لذلك، كما يؤمّن أطباء إختصاصيّين للكشف الطبي وإجراء الفحوص للأمراض الجلدية في المراكز الطبية المتخصصة».
وشدّد يوسف على «ضرورة الحصول على المساعدات من المبادرات الفردية والقيادات المؤمنة بلبنان»، لافتاً إلى أنّ «العراقيين وضعهم مزرٍ، فهم نازحون وليسوا سياحاً».
قدامى النازحين
إنها الموجة الثانية من هجرة مسيحيّي العراق الى لبنان، حيث تروي الشابة هيا يوسف (28 سنة) أنها «واجهت صعوبة منذ نزوحها إلى لبنان قبل أن تنخرط في المجتمع الجديد»، مشيرة الى أنّها «تعيش في جنوب العراق، ولكنها قرّرت متابعة دراستها في البصرة، لكن الوضع كان خطراً هناك، ما دفعها إلى الهجرة إلى لبنان مع أهلها».
وتؤكد أنّها «واجهت مشكلات تعليمية بسبب اختلاف المنهج التربوي العراقي عن اللبناني»، مشيرة إلى أنّ «لبنان متنوّع في لغاته، فيما المنهجية التربوية في العراق ترتكز على اللغة العربية».
وتؤكّد يوسف أنّ «المسيحيين اليوم يشعرون بإهانة أكبر، وهم يُطردون من بيوتهم، وهم الذين عاشوا ألفي سنة في العراق»، مشيرة إلى أنها «ستبقى وعائلتها في لبنان، خصوصاً أنها تملك الجنسية اللبنانية من والدها الذي حاز سابقاً عليها، فيما والدتها تجدّد إقامتها دائماً».
وتشدد على أنّ «العراقيين النازحين إلى لبنان قادمون موقتاً ريثما تكتمل أوراقهم الثبوتية للسفر إلى السويد أو استراليا أو غيرها من الدول الغربية»، مشيرة إلى أنّ المبادرة الفرنسية باستضافة اللاجئين تعرّضت لإنتقادات كثيرة من العراقيين أنفسهم، لأنهم يأملون دعماً من هذه الدولة لإبقائهم في بلدهم الأم بدلاً من تشجيعهم على الرحيل».
وترى أنّ «الحكومة العراقية تتحمل المسؤولية في كلّ ما حصل» إذ كان عليها أن تؤمّن كل التجهيزات اللازمة في الموصل في الوقت الذي تزداد مطامع الدول الأجنبية المجاورة كإيران والسعودية وتركيا وسوريا في تقسيم العراق»، لافتة إلى أنّ «المخطط في تفريغ الشمال العراقي من المواطنين المسيحيين أصبح أمراً واقعاً لأنّه لم يعد هناك من مسيحيّين».
وتفسر أنّ «المسيحيين زاد وضعهم سوءاً في العراق، خصوصاً بعد العام 2003»، مشددة على أنّ «المسيحيين العراقيين لطالما عانوا صعوبة في ارتيادهم الكنائس وأخذ العطل الرسمية كما في لبنان، إلّا أنهم كانوا أكثر أماناً من ذي قبل».
وترى أنّ «عودة المسيحيين النازحين إلى العراق أمر صعب في المستقبل القريب، فيما يبقى المستقبل البعيد في نفق غامض مجهول»، مشيرة إلى أنّ «العودة قد تحصل إذا استعادت الحكومة العراقية تحرّكها لتأمين وضع آمن والقضاء على الإرهابيين، إضافة إلى تدخّل الأمم المتحدة ووقف تسليح الإرهابيين».
ويبقى السؤال عن المدّة التي سيستغرقها حلّ قضية العراق، وهل سيعود المسيحيون الى بلاد ما بين النهرين، أو ستفرغ تلك الأرض من مسيحيّيها؟
سندرا الصايغ / الجمهورية