لم تكن طويلة الطريق نحو مطرانية الكلدان في لبنان في منطقة الحازمية، ولم يتطلب جهداً شق الحشود على ابوابها كما كان متوقعاً في اول يوم تسجيل للاجئين المسيحيين العراقيين المهجرين من الموصل، فالوضع هادئ، وساحات المطرانية فارغة حتى من السيارات.
الهدوء في الخارج يخيّم ايضاً في داخل المبنى الرحب، لا شيء هنا يوحي ان الوضع استثنائي. يكسر الصمت المطبق على الارجاء همسات من اشخاص لا يتجاوز عددهم العشرة، موزعين في ارجاء القاعة.
وجوه شاحبة، وعيون دامعة مركزة صوب باب في وسط القاعة، يؤدي الى مكتب تتم فيه عملية تسجيل تقوم بها المطرانية لاخذ المعلومات كاملة، في انتظار ان يفتح، ربما يأتي منه بصيص امل باسترجاع حياة طبيعية خسروها بفعل الهجوم الهمجي الذي نفذته “الدولة الاسلامية” او “داعش” عليهم في الموصل.
“الوضع مأسوي، وهناك مؤامرة على المسيحيين من جميع الاطراف والدول لتهجيرهم من المنطقة”، يقول رافي الاتي من قرية الكيف على حدود الموصل، والتي اصبحت بمثابة خط تماس بين المناطق التي تسيطر عليها “داعش”، والجزء الذي يسيطر عليه الاكراد. ويضيف: “الجميع تركنا من دون ادنى مقومات الحياة، فلا مياه ولا كهرباء ولا امن، اصبحنا تحت رحمة المسلحين”.
ويبتسم عند الحديث عن الجيش العراقي، سائلاً: “اي جيش؟ الجيش الذي لبس رئيس قواته البرية “الدشداشة” عندما اقترب داعش من الموصل؟ او الجيش الذي سلم القرى من دون “ضربة كف” بتآمر كامل معهم؟”. رافي الذي وجد عملاً منذ شهر ناطور بناية، أحسّ بقليل من الامان الذي افتقده في الشهر الماضي عندما كان يقيم عند صديق له مهجّر ايضاً، ويلفت الى انه يسعى الى الذهاب الى الولايات المتحدة وينتظر من المطرانية مساعدته في هذا الموضوع.
“العدرا نجتني”
موضوع الهجرة وعدم العودة الى العراق، يدفع رافق الشاب الجالس الى جانب رافي، الى الكلام ليشدد بدوره على ضرورة بناء حياة في اي بلد غير العراق، وعدم العودة اليه. ويقول بصوت مرتفع: “العذراء مريم نجتني من الموت، انا من قرية في محافظة ديالى، هربت وتم ايقافي على احد حواجز “داعش”، لم يقتلوني بعدما رجوتهم واكدت اني لن اعود الى هذه الديار، فتركوني ولم يأخذوا جواز سفري وهذا ما مكنني من الوصول الى هنا”.
ويروي رافق كيف ان شقيقته التي تبلغ من العمر 18 سنة ارغمت على ارتداء الحجاب، حتى والدته المريضة اصبحت محجبة واقنعت المسلحين بأنها أسلمت.
يعترض حمت ونوري، وهما رجلان خمسينيان على تأخير المطران ميشال قصارجي في استقبالهما. يرفضان الحديث بداية “لاننا تعبانين”، فهما وصلا الى لبنان منذ 3 ايام مع عائلتيهما ويبلغ عدد افرادهما 15 شخصاً (نوري وزوجته واولاده الـ4 ووالدته وحكمت واولاده الـ6 وزوجته)، ويقيمان حالياً عند عائلة عراقية في سد البوشرية، يفترشون الارض لأن الشقة صغيرة ولا اثاث فيها لاستيعاب هذا العدد.
وبعد اصرار، يروي الرجلان كيف انطلقا ليلا مع اسرتيهما الى اربيل بعد دخول عناصر من “داعش” الى القرية ومناداتهم لترك المنازل عبر مكبرات الصوت قبل الصباح، والا سيتعرضون للذبح.
“نحن نملك جوازات سفر”، يقول حكمت، “اما باقي اسرنا فلا جوازات لديها ولا تستطيع السفر، انما هربت معنا في اتجاه اربيل.
ويوضح الرجلان انهما منذ مدة يودعان عائلتيهما لحظة خروجهما من المنزل لانهما لا يعلمان اذا كانا سيعودان او لا، مؤكدين ان “من بقي في العراق حتى الساعة هم اما المرضى واما العجزة الذين لا يستطيعون الانتقال او السفر”.
قصارجي لمساواتهم بالسوريين
اما المطران قصارجي فيؤكد ان ما يجري في العراق “ليس من صيغة هذا البلد ولا تاريخه ولا تاريخ سكانه الذين عاشوا معا طوال تاريخهم، وإن كانت تحصل بعض المناوشات فهي تحصل في كل دول العالم”، مشيراً الى ان “انهيار الدولة بعد 2003 وفقدان الامان ودخول المنطقة في الصراع السني – الشيعي افقد السكان الاستقرار ودفعهم نحو الهجرة”.
وسأل: “من الذي يغذي “داعش” ويدعمها، ومن يشتري منها النفط لتمول نفسها؟ ومن اين تمر الانابيب والصهاريج والى من تصل؟”. وطالب مجلس الامن والامم المتحدة “بارسال جيش اممي لحماية العراق لا المسيحيين فقط، فجميع العراقيين يموتون.
نحن في حاجة الى مؤتمر سريع تعقده تركيا والسعودية وقطر وايران لحماية العراق ومن فيه”.
وعن وضع اللاجئين العراقيين يشير إلى أن “الكنيسة تقوم بما عليها، وهي تستقبل يومياً عشرات العائلات، وتقوم بتسجيلهم وتقديم المساعدات لهم”.
ويبقى ان واقعًا مريرًا فرض على مسحيي العراق وتهجيرا ظالما جعل من بلاد الجوار ملاذاً لهم. ورغم معاناة لبنان الاقتصادية والامنية، لا بد من النظر الى اوضاع من رمتهم الحرب على ارضه عنوة، وتقديم المساعدة الضرورية، اقله في ابسط الأمور من دواء ومدارس، او ربما معاملتهم بالمثل أسوة بمن سبقهم من لاجئين.
اسكندر خشاشو / النهار