لم تعُد أزمة «المارونية السياسية» مرتبطة بمنصب من هنا أو قطعة أرض بيعت من هناك، أو العيش على أمجاد ماضٍ ولّى، بل إنّ الوضع يُشبه ورثة يتنازعون على «تركة» امبراطورية لم يبقَ منها سوى الأحلام.يُردّد أكثر من مسؤول روحي وسياسي ماروني أنّ وجودنا لا يرتبط برئاسة الجمهورية بل إنّه أعمق من ذلك بكثير ويمتد لأكثر من 1500 عام. ويشدّد على أنّ الموارنة تعرّضوا عبر التاريخ لأبشع أنواع الإضطهادات والعزل، من الأمويين والعباسيين والمماليك، وصولاً الى لحظة إعلان الإمارة المعنية التي كانت بالنسبة إلينا شَراكة مع الدروز أعطَت نوعاً من الاستقلالية التي توسَّعت مع مجيء الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير.
قد يكون هذا الكلام صحيحاً، لكنّ الواقع يدلّ على أنّ تلك النضالات الموثّقة كانت من اجل الوصول الى دولة لبنان الكبير برأسه الماروني، وليس لخلق دولة دينية أو نموذج شبيه بإسرائيل.
فعندما يصل أيّ شعب الى هدفه يسعى جاهداً للحفاظ عليه. لذلك يدخل كلام المسؤولين عن أنّ الوجود الماروني غير مرتبط بالرئاسة في سياق تخفيف واقع الخسارة الثقيل الذي أرسته التقلبات الإقليمية والدولية وتبدّل موازين القوى السياسية، وتغيّر خريطة لبنان الديموغرافية، حيث بات الموارنة يصدّرون، كما كلّ شعوب العالم الثالث، الأدمغة الى الخارج بعدما باع الأهل كلّ ما يملكون ليعلّموا أولادهم في أحسن المدارس والجامعات.
وأمام هذا الواقع، قد يكون الماروني خسِر الجزءَ الأكبر من أرضه لسبب تعليمي أكثر ممّا هو حاجة طارئة، لكنّه ما زال ينتفض عندما يمسّ أحدهم بالوعي الجماعي. وفي السياق شكّلت أزمة مسح مشاعات العاقورة باسم الجمهورية اللبنانية الفتيل الذي أشعل القنبلة.
تنادى أهل العاقورة وتنورين لحماية ما بات يشكّل لهم تراثاً، أكثر مما هو ملك، وما أجّج الإنتفاضة معرفة وتخوّف أكثر من مسؤول كنَسي وسياسي ماروني أنّ الهدف من هذه الخطوة هو مسح المشاعات باسم الدولة كخطوة أولى، قبل أن يتمّ وهبها الى بلدة اليمونة في بعلبك بحجة أنها لا تمتلك مشاعات، لكنّ انتفاضة الموارنة السريعة أفشلت المشروع وتمّ ابتكار مخرج محوره تطبيق قانون الأراضي الذي يلحظ جبل لبنان القديم.
يَدفع رجال الأعمال المسيحيون أموالاً طائلة للحفاظ على قطع أرض صغيرة لا تتعدّى مساحة بعضها ألف متر لكي لا تفقد الأرض هويّتها، فكيف الحال إذا كانوا سيخسرون عشرات الكيلومترات دفعة وحدة، وما سيتبعها من خسارة الأملاك على طول السلسلة الغربية؟ فهل يدرك أحدٌ فظاعة الخسارة؟
مرّ قطوع العاقورة، تحرّكت الكنيسة سريعاً ومعها الأهالي والزعامات المحلية، وعادت الأوضاع الى طبيعتها، لكنّ الحذر بقي سائداً في ظل غياب الإنتظام العام في المؤسسات وغياب رئيس الجمهورية حيث بات كلّ وزير بمرتبة رئيس. من هنا طرحت مجدداً قضية مشاعات البلدات المسيحية الواقعة خارج نطاق جبل لبنان القديم الممتد من جزين الى بشري وإهدن.
وفي هذا السياق سلّط الضوء على قرى الشريط الحدودي وبلدات البقاع الغربي اضافة الى دير الأحمر ورأس بعلبك والقاع ذات الغالبية المسيحية، وما إذا كانت ستواجه بدورها مشكلة العاقورة.
مشكلة الأراضي في القاع موجودة، لكنّ التعديات على مشاريع القاع هي من نوع آخر، وقد كشف راعي أبرشية بعلبك للروم الكاثوليك المطران الياس رحال أنّ الضغط سيكون في اتجاه بدء الفرز في مشاريع القاع وهذا ما يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة وإلّا فإنّ التصعيد وارد.
من جهته، يؤكد راعي أبرشية بعلبك ودير الأحمر المارونية المطران حنا رحمة أنّ مشكلة العاقورة مختلفة عن مشكلاتنا، ففي الأساس هناك أراض ممسوحة باسم الدولة وأخرى باسم البلدية، ومشكلتنا وجود تعديات على أملاك الدولة، فيما يجب تطبيق القانون في هذا المجال. أما بقية القرى المسيحية، فينطبق عليها ما ينطبق على البقاع الشمالي.
تُعتبر مشكلة هجرة المسيحيين أرضهم ولجوء بعضهم لبيعها اضافة الى التعديات التي تشبه قضية لاسا، من المشكلات التي أضعفت الوجود المسيحي الفاعل، وهذه المشكلة موجودة في عمق جبل لبنان وليس الأطراف، والمثال على ذلك ما تشهده الضاحية الجنوبية من تعدٍّ على أملاك الكنيسة وإفراغ المنطقة من مسيحييها والتي تقع في ساحل بعبدا، القضاء الذي يحتضن القصر الرئاسي.
وإذا كان المثل يقول إنّ «الرزق السائب بعلّم الناس الحرام»، فإنّ سكان الجبال أثبتوا انّ أرضهم ليست سائبة، لكنّ الخوف أن يحاول البعض مسح رئاسة الجمهورية وأخذها من الموارنة مثلما حاولوا مسح مشاعات العاقورة باسم الجمهورية اللبنانية، لكنّ الرئاسة التي يشغلها ماروني كانت دائماً باسم الجمهورية وليست باسم مذهب، والخوف أن يحصل العكس، فيخسر الموارنة الرئاسة، وتفقد الجمهورية رونقها.
آلان سركيس
الجمهورية