احتفل رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر يحيط به نائبه العام المونسنيور جوزف مرهج ونوابه الأسقفيون ورؤساء جامعة ومدارس الحكمة، بقداس افتتاح يوبيل سنة الرحمة الإلهية في كاتدرائية مار جرجس في بيروت، شارك فيه الكهنة الأبرشيون والرهبان والمكرسون، والراهبات والمكرسات والمؤمنون والمؤمنات في أبرشية بيروت.
وقبيل القداس أقيمت صلاة الرحمة عقبها زياح في الشوارع المحيطة بالكاتدرائية، تقدم المشاركين به المطران مطر الذي، واستجابة لدعوة البابا بفتح باب في كل كاتدرائيات العالم، تسهيلا للمؤمنين، بارك باب الرحمة في كاتدرائية مار جرجس ودعا المؤمنين إلى عبوره “لأنه باب المراحم المفتوح لجميع التائبين”.
وبعد الإنجيل المقدس ألقى مطر عظة من وحي المناسبة، جاء فيها: “هي نعمة تنزل علينا من السماء، أن ندخل في سنة يوبيلية خاصة واستثنائية أعلنها قداسة البابا فرنسيس، من الثامن من كانون الأول عام 2015 إلى العشرين من تشرين الثاني عام 2016، وكرسها سنة مقدسة نذكر فيها رحمة الله على الدنيا بأسرها. ونتأمل بانعكاس وجهه القدوس المتجلي فيها، ونلتزم العيش بموجبها في علاقتنا مع الناس، إلى أي دين أو وطن كان انتماؤهم”.
واضاف: “لم يختر قداسته هذا الزمن صدفة ليعلن فيه إحياء هذا اليوبيل المبارك، بل أراده مرتبطا ارتباطا تاريخيا ووجدانيا بالمجمع الفاتيكاني الثاني الذي كان ولم يزل منذ خمسين سنة على اختتامه منطلقا لربيع جديد تحياه الكنيسة في إيمانها وفي رسالتها على السواء. كان المجمع قد دعا الكنيسة، لتتخطى نظرة جزئية لهويتها التي اعتادت التأكيد من خلالها أنها مؤسسة قائمة بذاتها، ولها حقوقها المعطاة من الله وليس من البشر، وإنها ملزمة الدفاع عن الحقيقة التي أئتمنت عليها حتى نهاية الدهر. فذكرها من جديد بأنها قبل كل ذلك شعب الله السائر في زمن هذا العالم إلى اكتمال الملكوت، وبأنها خادمة للانسانية التي أراد الله أن تتوجه كنيسته إليها بالمحبة النازلة عليها من قلبه القدوس، فتكون سندا للشعوب في اكتشاف وجه الله وفي التنعم بعذوبته ورحمته”.
واردف مطر: “لهذا اعتمد قداسته افتتاح هذا اليوبيل في اليوم الذي اختتم فيه المجمع المسكوني، أي في عيد العذراء مريم التي حبل بها بلا دنس، ليعلن بذلك عن بدء مرحلة مقبلة يريدها في حياة الكنيسة ويرى فيها امتدادا لرسالة المجمع الفاتيكاني الثاني ولو وسط ظروف متغيرة على العالم بعد أن مر نصف قرن على انعقاده. فجاء في مقدمة الرسالة كلام للبابا عن رغبة لدى آباء هذا المجمع المسكوني في أن تتكلم الكنيسة مع العالم لغة يسهل عليه فهمها. وذكر بكلام البابا القديس يوحنا الثالث والعشرين في جلسة افتتاح المجمع حيث قال: “إن كنيسة المسيح، التي تحمل عاليا مشعل الحقيقة الروحية، تريد أن تظهر نفسها للعالم أما للجميع، مليئة بالتفهم والحنان تجاه أبنائها البعيدين”. وذكر أيضا قداسته بما جاء في خطاب البابا الطوباوي بولس السادس يوم اختتام هذا المجمع حيث قال: “إن كل ما تمتلك الكنيسة من غنى روحي وعقائدي لا يهدف إلا إلى خدمة الإنسان، كل إنسان مهما كانت ظروف حياته ومهما كانت تعثراته وحاجاته”.
في ضوء هذا التجدد الكنسي الذي أطلقه المجمع الفاتيكاني الثاني، وبعد أن واكبت الكنيسة مسيرة العالم على مدى نصف قرن شهد انحسارا للصراعات العقائدية بين شرق وغرب وتوافقا ضمنيا بين مصالح أهل المال والغنى من كل جانب، ما جعل الفقراء يزدادون فقرا في كل المجتمعات والمهمشين تهميشا مذلا للانسان والإنسانية، أراد قداسته للمرحلة الراهنة من حياة العالم أن نعود ونكتشف وجه الله الحنون والرحوم لجميع الناس، فنمتلئ من محبته وننطلق إلى أخوتنا المعذبين هؤلاء لنمد لهم يد المحبة، فنخفف من حرمانهم ونعيدهم من هامش السيرة إلى قلب المجتمع وإلى الحياة الخليقة بأبناء الله. ولكي تكون المسيرة هذه واثقة في ارتكازها إلى الوحي الإلهي، دعا قداسته أولا لأن نقرأ الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، وأن نعيد التأمل في حقيقة أن الله في جوهره رحمة وأن الرحمة هي حقيقته الكبرى. فتدخل في القلوب بعض رحمته، ونجد فيها خلاصا للعالم من جفاف العاطفة وقسوة التعامل بين البشر”.
وتابع: “هذه الرحمة يذكرها على سبيل المثال سفر المزامير حيث يناجي الكاتب ربه قائلا: “باركي يا نفسي الرب وجميع ما في باطني لاسمه القدوس، هو الذي يغفر ذنوبك، ويشفي سائر أمراضك، الذي يفتدي من الهوة حياتك ويكللك بالرحمة والرأفة، الذي يشبع من الخيرات شهواتك ومثل النسر يجدد لك شبابك” (102). وفي العهد الجديد يضعنا البابا أمام تعاليم الرحمة الواردة فيه، حيث يظهر على صورة راعي الأغنام، يترك التسعة والتسعين خروفا في الحظيرة وينطلق وراء الخروف الضال حتى يجده ويفرح بضمه إلى صدره وإلى قطيعه. وهو متمثل أيضا بوالد الابن الشاطر، الذي انتظر عودة ابنه الضال بعد انفصاله عنه، ليفيض عليه رحمته ويغفر له ذنوبه ويرد إليه بنوته الضائعة. كذلك نرى عظمة الرحمة الإلهية في الإنجيل عبر مثل السامري الصالح، الذي تحنن على جريح أوسعه اللصوص ضربا، وأثخنوه بالجراح، فحمله إلى فندق وأوصى بالاعتناء به، على أن يسدد عنه في عودته كل ما يلزم لمداواته. والجميل في ختام هذا المثل أن يسوع أجاب الفريسي الذي كان يجربه والذي أقر أن القريب من الجريح كان ذلك الذي رحمه: أن “اذهب أنت وافعل كذلك”.
وقال: “ومن الكتاب المقدس الذي يكشف لنا بأبهى صورة سر محبة الله ورحمته للبشر، ينطلق البابا إلى الكلام عن رسالة الكنيسة التي عليها أن تكون امتدادا لمحبة الله لنا بيسوع المسيح. وهل من كلام أوضح عن وجوب الرحمة في الكنيسة من وصية الرب لتلاميذه بقوله لهم: “كونوا رحماء كما أن أباكم السماوي هو رحوم” (متى 6، 36). وهل من دعوة للرحمة أسمى من تلك التي أطلقها الرب في إنجيل التطويبات بقوله: “طوبى للرحماء فإنهم يرحون.
من أجل وضع هذه الآيات الإنجيلية موضع التطبيق، دعا البابا الكنيسة إلى إحياء سنة حج روحي تغوص معه في الرحمة الإلهية، وتتفقد في مسيرتها هذه كل المحتاجين إلى الرحمة لينطلقوا هم أيضا ويسيروا على درب المسيح. فيحذر البابا من أي خطأ في التقدير بقوله: “لكي ندرك مكانتنا من هذه الحقيقة يجب التنبه إلى إنه حيث الرحمة هناك الكنيسة ولن تكون الكنيسة كنيسة بلا رحمة”. أي “إن الكنيسة ملتزمة بأن تعكس في حياتها وفي أعمالها وجه الآب الرحوم”. على هذا الرجاء يبدأ الحج رمزيا عبر دخول كل مؤمن باب رحمة الله في إحدى الكنائس المنتشرة في أصقاع الأرض. وها نحن في بيروت ندخل إلى كاتدرائيتنا وقد كرسنا فيها بابا لهذه الرحمة، حتى إذا ما ولجنا بيت الله، نلقى فيه ربا رحوما ينتظر عودتنا ويغفر آثامنا ويعيد لنا حياة النعمة الفياضة التي تصيرنا بدورنا خداما للرحمة ما دام فينا قلب ينبض.
من هنا ينتقل البابا إلى المستوى العملي، فيرسم بعدين أساسيين لعمل الرحمة وتأدية رسالتها، وهما البعد المادي والبعد الروحي والإنساني. أما المحتاجون إلى الرحمة المادية فالإنجيل المقدس يسميهم أو يشير إليهم بكل وضوح في إنجيل متى، حيث يدعو إلى عمل الرحمة على الجائع لنطعمه والعطشان لنسقيه والمريض لنشفيه والسجين لنزوره ونفتقده (متى 25، 35). إنها وصية لا لبس فيها، ونحن مسؤولون عنها أمام الله والناس. وإذا ما تعمقنا أكثر في مضمونها فإننا نكتشف مجالا لعمل الرحمة المادية هذه لا حيال الأفراد فحسب، بل أيضا في التضامن مع الشعوب والمؤسسات. إنه عمل لا تحده حدود سوى حدود رحمة الله بالذات. ويضيف قداسته إن هذه الرحمة تتخطى قيم العدالة التوزيعية والمساواة، لأنها تنبع من حب الله ومن حنانه الذي ليس له قياس. أما البعد الثاني للرحمة فهو الذي يدعونا إلى محاربة الجهل في الناس واحتمال ضعف الضعفاء من بينهم، وتعزية المحزونين والمغفرة للمسيئين. فكم يلزمنا من التضامن بين الأقوياء والضعفاء، بين المتقدمين والمتخلفين لنحقق أخوة شاملة تجمع الشعوب في ظلها. ولا ينسين أحد منا هذه الحقيقة بأن إعطاء الآخر من وقتنا ومن حضورنا، أهم بكثير من أي عطاء نقدمه من المال أو المقتنيات”.
واردف: “أما زمن الصوم لهذا العام اليوبيلي فإنه سيساعدنا مساعدة فعالة لندرك ضرورة تخطي مفاهيم العدالة الحسابية والولوج في مفهوم الغفران الشامل والعطاء المجاني. فتبرز إذ ذاك مضيئة كلمة الرب القائل في إنجيل متى: “إني أريد رحمة لا ذبيحة” (متى 9، 13). وكم هو جميل شرح قداسته لهذه الآية بقوله: “لو كان الله يتوقف عند حدود العدالة، لما كان إلها حقا”.
إن هذا اليوبيل هو فرصة ثمينة لانطلاقة جديدة في حياة الكنيسة ورسالتها، ونحن نشكر الله على الإلهام الذي خص به قداسته ليطلق سنة الرحمة هذه، ونشكر قداسته أيضا لمبادرته المباركة بإرسال كهنة من كل الأبرشيات للذهاب نحو أخوتهم ليثبتوا مشيئة الله في قلوبهم، وقد أسماهم رسل الرحمة مقلدا إياهم سلطانا للحل من الخطايا المحفوظة كلها. ونحن قد طلبنا من قداسة البابا أن يعين من أبرشيتنا في بيروت كاهنين عزيزين قدمنا له أسماءهما بكل محبة ورجاء”.
وختم مطر: “وها نحن اليوم، نجتمع وإياكم لإقامة الذبيحة ولافتتاح سنة الرحمة في أبرشيتنا العزيزة، أنتم الذين تمثلون فيها مجمل رعاياها المئة والثلاثين، ومؤسساتها الجامعية والتربوية، وأخوياتها رجالا ونساء، وشبيبتها ومجالسها الأبرشية والخيرية والاجتماعية والإنسانية، ولجان المرأة فيها والعائلة والحياة الروحية بكل أبعادها. وإذ ندخل اليوم وإياكم باب الرحمة في الكاتدرائية فإننا نعلم أبناء الأبرشية عبركم بأننا كرسناه من أجلهم لسنة كاملة ليحجوا عبره إلى هذه الكنيسة ويدخلوها علامة عن دخولهم إلى رحمة الآب وامتثالهم لمشيئته القدوسة بأن يكونوا على صورته رحومين.
فندعوكم أيها الأعزاء جميعا إلى القيام بأفعال الرحمة المادية والروحية هذه في كل رعية كما في المطرانية لنكون مطواعين لإلهام الروح القدس. كما ندعوكم إلى الصلاة المستمرة، وإلى التعمق بتعاليم الكتاب المقدس وتاريخ الكنيسة فيما يخص رحمة الله في العالم، وإلى إقامة الندوات والسهرات الإنجيلية حول الموضوع وتحقيق ما نرسمه معا ليكون هذا اليوبيل عطية سماوية لنفوسنا ونورا مشعا في حياتنا الفردية والجماعية، بما يرضي الله ويقيم الكنيسة. وليسكب الله عليكم جميعا يا أبناء الأبرشية وبناتها الأعزاء، حاضرين وغائبين، مقيمين ومغتربين، في جو هذا اليوبيل المقدس فيضا سخيا من نعمه وبركاته”.
وطنية