يحل الفنان الأميركي الراحل ضيفاً على العاصمة اللبنانية في معرض استعادي شامل بعنوان «الفوتوغرافيا في المعمل» يحتضنه «مركز بيروت للفن». يتتبع الحدث الممارسة الفنية لسِكولا، مستعيداً مجموعة من مشاريعه الأولى واللاحقة منذ السبعينيات وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين. التوجّه السياسي الراديكالي جعل من صوره وفيديوهاته المفاهيمية وثائق معاصرة عن ظروف العمال في أميركا السبعينيات، وحرب الفيتنام، والسيستم التعليمي الرأسمالي، وعولمة الشواطئ والبحار
حين كان الفوتوغرافيون الأميركيون يدشنون طوبوغرافياتهم الجديدة (معرض «طوبوغرافيات جديدة») في كاليفورنيا، لم يجد ألَن سِكولا (1951 ــ 2013) غير عبارة «القنبلة الهيدروجينية» لتوصيف صور ما اعتبر حينها معرضاً تحولياً في المشهد الفوتوغرافي الأميركي والعالمي. تلبست الوثائق البصرية للمشاركين مثل لويس بالتز وروبرت آدمز والثنائي الألماني بيكر، برصانة وجلافة المصانع، والأبنية وصهاريج الغاز وغيرها من الصروح التاريخية.
أفنى هؤلاء الوجود البشري من صورهم، كما تفنيها القنبلة الهيدروجينية. قد تلتقي رؤية ألن سكولا الفوتوغرافية الخارجية مع ما فعلته جماعة الطوبوغرافيا، لناحية الاشتغال المفاهيمي. صحيح أن الفوتوغرافيا عنده تنهل من السياسة والاجتماع، إلا أنه أحيا سمات كثيرة لهذا الوسيط، على النقيض مما فعلته التيارات الحديثة التي أخمدت عناصره لمصلحة التجريد والمينيمالية. هكذا استعار من السينما والمسرح حواراتهما، لحصر توجه سياسي قد يفلت من الصور الفوتوغرافية التي مساحتها التأويل.
إذا لم يكن الوسيط الفوتوغرافي شاهداً يقظاً على تبدل علاقات القوى الاقتصادية والاجتماعية، ماذا سيكون إذاً غير وسيلة لاجترار الوقائع والأحداث التي جرت مسبقاً؟ تساؤلات سياسية وظيفية كثيرة رافقت المنظّر والمصوّر الأميركي منذ أوائل السبعينيات، حين أشهر مآخذه وانتقاداته للمدارس الفوتوغرافية الحديثة الذاتية، منطلقاً من النقد الماركسي المبكر لـ «الموضوعية المجرّدة» في الألسنيات، في أعمال باختين ودائرته الأدبية. باللجوء إلى مرجعيات اقتصادية ونفسية وفنية وسياسية مثل آدم سميث، وسيغموند فرويد ووالتر بنجامين، بحث عن محركات ودوافع ومعاني الفن الفوتوغرافي المحكوم بدوره بالتغيرات التاريخية والتكنولوجية. حل سِكولا أخيراً على بيروت في معرض استعادي شامل بعنوان «الفوتوغرافيا في المعمل» في «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت). يعطي المعرض نبذة متعمّقة في هذه التجربة الأميركية المتفرّدة، من خلال حوالى 50 عملاً فوتوغرافياً ونصوص وأفلام من تلك التي صنعت توجّه سكولا الفني، إلى جانب الجهد اللافت الذي قام به المركز لتقديم الفنان الماركسي إلى الجمهور اللبناني، بتعريبه النصوص التي تشكّل عنصراً أساسياً في عمله الفني. يضم المعرض أعمالاً أساسية لسكولا في السبعينيات والثمانينيات وصولاً إلى بدايات القرن الحادي والعشرين مثل «حكايا كليفورنيا»، و«المدرسة مصنع»، و«حكاية سمكة»، و«في انتظار الغاز المسيل للدموع»، و«أوروبا»، و«حكايا شعبية من مصانع الفضاء»، وفيلم «يا نصيب البحر» وبعض المنشورات والكتب. ما لم يستطع سكولا تحاشيه هو التحولات الفنية والسياسية التي شهدتها فترة السبعينيات.
السخرية حاضرة في العمل الذي يفتتح بصورة من ثلاثة أجزاء لسكولا وهو يسبح أمام منزل بيل غيتس على شاطئ سياتل عام 1999 بالتزامن مع التظاهرات الاحتجاجية ضد منظمة التجارة العالمية المجتمعة في المدينة ذاتها. مع هذه الصورة، كتب سكولا رسالة إلى بيل غيتس، يتساءل فيها بتهكّم عن شراء رجل الأعمال الأميركي لوحة ونسلو هومير لصيادين فقيرين على ظهر مركب يغرق. الرحلة تنطلق من سياتل لتجوب شواطئ روسيا وقبرص ولشبونة واسطنبول… لرصد أوجه العولمة التي تشهدها البحار نزولاً عند توصيف الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث لعالم البحار بأنه أكبر لعبة يانصيب. هذه العبارة دفعته مجدداً إلى التعمق في عالم البحار في أحد أبرز مشاريعه: كتابه ومجموعته «حكاية سمكة» التي نشاهد فصلين منها في المعرض بسبب ضخامة العمل الذي يحاول استكشاف تاريخ السوق التجارية والصناعية عبر البحار. يقتطع البحار والشواطئ من صورتها النوستالجية، ويظهرها كوجه أساسي من وجوه العولمة حيث العمال والسفن والحمولات الثقيلة. وبعيداً عن البحار، نشاهد أيضاً «في انتظار الغاز المسيل للدموع»، بورتريهات المتظاهرين ضد منظمة التجارة العالمية عام 1999. في بورتريهاته الجمالية (35 مم) التي تعرض على الشاشة يقدّم الفنان نقداً للصور الصحافية اللاهثة خلف الأحداث الصاخبة، إذ لا نرى لقطة واحدة للعنف الذي تمارسه الشرطة على المتظاهرين. المعركة لا لبس فيها، وعليها ترتكز صور المتظاهرين التي تبدو كأيقونات للصراع العالمي ضد الرأسمالية.
«الفوتوغرافيا في المعمل» لألَن سِكولا: حتى 29 أيلول (سبتمبر) المقبل ــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت). للاستعلام: 01/397018
الأخبار