تجرأت «هيئة الإذاعة البريطانية» على الاضطلاع بمهمةٍ شديدة الصعوبة، حين أعلنت عن بدئها سلسلة تحقيقات استقصائية بعنوان «الحرية 2014». تحاول السلسلة اكتشاف ماذا يعني مفهوم الحرية للناس حول العالم اليوم، وقد انطلقت في 25 كانون الأول، وتستمرّ حتى نهاية آذار الحالي. تعرض التحقيقات الخاصّة بالسلسلة، عبر الموقع الرسمي لـ«بي بي سي» بالإنكليزية والعربيّة، وجميع اللغات الأخرى، وتبث بعضها عبر القناة التلفزيونية.
فتحت «بي بي سي « باب المشاركة للجمهور كي يرسل مقاطع فيديو مصوّرة أو صوراً فوتوغرافية تجسد معنى الحرية، ونظمت على الهامش جلسات نقاش «عابرة للقارات»، للغوص في دلالة المفهوم الشائك الذي كان مطلباً أساسياً في معظم الحركات الاحتجاجية التي أشعلت مناطق واسعة من العالم في السنوات القليلة الماضية.
لم يخفِ مدير قطاع الأخبار في خدمة «بي بي سي» العالميّة بيتر هوروكس، فخره بالتجربة، ويقول: «كانت «بي بي سي» لزمنٍ طويل رمزاً للحرية، والمصدر الوحيد للتقارير الإخبارية الحيادية والمتوازنة في العديد من دول العالم».
جاءت المساهمات الأولى في «حريّة 2014» من بعض الشخصيات المشهورة، وبدت مهمة «التنقيب عن الحرية»، في مواضع كثيرة، مجرد ذريعة لإيصال وتكريس رسائل سياسية. على سبيل المثال تحدّث رائد الفضاء الأميركي كريس هادفيلد، بتأثرٍ شديد عن صورة التقطت ليلاً من الفضاء لمدينة برلين، بعدما قسمتها أعمدة الإضاءة والأنوار إلى جزءين متمايزين، ما ذكّر هادفيلد بسقوط جدار برلين، كرمز للحريّة بالنسبة له، ليصف بعد ذلك متعة روّاد الفضاء في الدوران حول الكرة الأرضية، والتحرُّر من الجاذبية.
في المقابل جسدت حديقة المنزل بأشجارها وبوابتها الحديدية مفهوم الحرية بالنسبة للناشط البريطاني الشهير في مجال الدفاع عن نورمان كمبر. والأخير احتجز رهينة في العراق العام 2005، من قبل إحدى الكتائب المسلحة، بالرغم من أنّه كان ذاهباً كي «يثبت للعراقيين أنّه ليس جميع البريطانيين مؤيدين للحرب». يقول ذلك كما لو أنَّه يستنكر كيف رد له العراقيون جميل محاولته الدفاع عن «حريّتهم من الاحتلال الأميركي». فيما اختار مؤسس «ويكيبيديا» جيمي ويلز، النصب التذكاري للرئيس توماس جيفرسون، في واشنطن كرمز الحرية، معلناً قلقه إزاء مراقبة الحكومة الأميركية «للناس العاديين».
تضمَّنت الحملة أيضاً سلسلة من خمسة تقارير تتحدَّث عن استخدام الغناء عبر العالم للدفاع عن الحرية، في مقدمتها أغنية «ليتني عرفت ما معنى أن أكون حراً»، التي اتخذت مكاناً مميزاً في قلب حركة الحقوق المدنية الأميركية، أو قائمة الأغاني الأكثر شهرة في الأرجنتين إبان الانتقال من حقبة «الحكم العسكري المظلمة إلى نور النظام الديموقراطي»، بحسب وصف الصحافي الأرجنتيني معد التقرير.
تهتمّ تقارير أخرى بالنساء، فتسأل: «هل كونك فتاة قيّد حرياتك؟» حمل أحد تلك التقارير عنوان «الحرية في أن أكون عازبةً»، فسلّط الضوء على التمييز ضد الأرامل والمطلقات في الهند. جسد النفاذ لمواقع التواصل الاجتماعي مفهوم الحرية بالنسبة لأحد الصحافيين الأتراك. فيما تضمن التقرير الإذاعي «أصوات غوانتانمو»، مقابلات صوتية مسجلة مع معتقلين سابقين في السجن العسكري الأميركي.
تشتت «بي بي سي» اهتمام المشاهدين بتنوعٍ ظاهري، حينما تنتقل من رائد فضاء إلى ناشطة ضد ختان الإناث، وتتجول في قارات العالم بحثاً عن معنى الحرية.. إلا أن محصلة التقارير تترك انطباعاً أن «موسم الحرية 2014» فسّر الماء بعد الجهد بالماء. فاختلاف الشخصيات والأماكن لم يعكس تبايناً جوهرياً في النظرة نحو الحرية. وبالرغم من أن القناة حددت شروطاً لقبول مشاركات الجمهور وأشارت أنها لن تعرض جميع المشاركات المقدّمة، لم توضح المعايير التي تجعلها تعرض تقريراً من دون آخر، لتكون المحصلة نظرة إلى الحرية من داخل «صندوق بي بي سي».
تركِّز «بي بي سي» على إسقاط جدار برلين، وتروّج للحكومات الديموقراطية الملوّنة، مقابل الحكم المظلم للأنظمة العسكرية، وتكرس النظرة النمطية للحرية التي غذتها القنوات الإعلامية العالمية وأفلام هوليوود و«ديزني» طوال سنوات. كما لو أنّها ما زالت تتبنى مفهوم الحرية الذي طرح وتبلور إبان انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات، بالرغم من أنها تطلق على حملتها اسم «الحرية عام 2014».
«بمحض المصادفة»، خلت جميع التقارير من نداءات تطالب بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع عن وحدة أراضيها بعيداً عن التدخلات الخارجية، أو حق الفقراء بالتحرر من الفقر، وتوزيع عادل للثروة، والتحرر من سيطرة الشركات العابرة للقارات، وهي نداءاتٌ يرتد صداها في الكثير من بقاع العالم.. لكنّ «هيئة الإذاعة البريطانية» صمّت آذانها عن سماعها.
نور أبو فرّاج / السفير