بدأنا في الأمس شهرًا مكرسًا للتقوى لقلب يسوع. وإذا ما نظرنا مليًا إلى التقوى الشعبية لوجدنا أهمية كبرى مولاة لـ “قلب” يسوع و لـ “قلب مريم البريء من الدنس”. كما ويكفي أن ننظر إلى بعض الأمثلة من الكتاب المقدس لنعي أهمية ومحورية مفهوم القلب فيه. “الوصية الأولى” في العهد القديم، بحسب ما لخص يسوع ملاقيًا قبول الكاتب هي: “أحبب الرب إلهك من كل قلبك…”، ويسوع يتحدث عن القلب كمحور نوايا الإنسان: “من القلب تصدر الأفكار الشريرة”، “حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك”…
ولذا من المهم أن نكرس وقفة تأملية بمعنى القلب الكتابي واللاهوتي. في تعليقه على سر فاطيما الثالث قام عميد مجلس عقيدة الإيمان حينها الكاردينال يوسف راتسنغر (Joseph Ratzinger) (البابا بندكتس السادس عشر الآن) بتقديم وصف موجز لمفهوم القلب: “القلب يعني في لغة الكتاب المقدس محور الوجود البشري، واندماج العقل والإرادة، والمزاج والإحساس”. “القلب هو ذلك الواقع الذي يجد فيه الكائن البشري وحدته وتوجهه الداخلي”.
القلب بحسب النظرة المسيحية هو محور الكيان البشري، ومركز وحدة القدرات، وإذا جاز التعبير، هو كرسي الأنا. القلب إذًا بحسب هذا المعنى الوجداني والروحي لا يوجد في أي من أعضاء الإنسان، هو ليس ذلك العضو النابض في الصدر بين الرئتين، بل هو ذلك الواقع الذي يشكل محور كامل الوجود الشخصي. إنه محور الوحدة حيث تتلاقى كل خيوط دائرة كيان الإنسان.
في الفن
لقد وعى الفن البيزنطي لهذا الواقع، وأدخل هذا المفهوم الأنتروبولوجي العظيم في فن الأيقونة. فالأيقونة التي تمثل قديسًا ما، أو الرب نفسه، عادة تصور الوجه انطلاقًا من أربع دوائر متمحورة. الأولى هي دائرة خفية تتواجد محور وجه الشخص بين حاجبيه، وتشكل كرسي اللوغوس (أو النوس)، أي الفكر والكيان الروحي، هي الموضع الأكثر حميمية في الإنسان، موضع صورة الله فيه، المحور الروحي. ومن ثم دائرة تتضمن العينين والجبهة، للإشارة إلى الدماغ وقدرة الفهم والتحليل، هي المحور الفكري والنفسي. الدائرة الثالثة تتوسع لتشمل الشعر والفم واللحية، هي دائرة البعد الجسدي الهش للوجود البشري. أما الدائرة الرابعة وهي دائرة الهالة الذهبية، فهي تعبر عن دعوة الإنسان إلى الإنطلاق من صورة الله إلى مثاله، وتحقيق كنه صورة الله الروحية في الإنسان بهذا الشكل.
وعليه، بحسب هذا المفهوم القلب هو محور الوجود الإنساني الأعمق، هو الدائرة اللامرئية حيث تقوم صورة الله في الإنسان، وهي أعمق من الوجود النفسي واعمق من الوجود الروحي. والإنسان القديس هو الذي يقيم ترابطًا حيًا بين الدائرة الخفية في قلب كيانه وبين الهالة الروحية، دعوة العيش من قداسة الله.
غريزة إلهية
وبالتالي فالقلب هو تلك القدرة البشرية التي تذهب أبعد وأعمق من القدرة الفكرية في الإنسان، وأبعد من تصور خيالنا. هو بعد ما يسميه توما الأكويني في الخلاصة اللاهوتية “غريزة إلهية”. وبعد توما الأكويني تميزت المدرسة الصوفية الرينانية، تحت تأثير ممثلها البارز “مايستر إيكارت”، بتعابير مثل “عمق النفس”، التي هي مرادف لمفهوم القلب.
القلب بالنسبة لأغسطينوس هو موضع الله الذي يقيم في أعمق أعماقي (intimior intimo meo). وإنطلاقًا من هذا التعبير نفهم أن معرفة الله تتطلب نوعًا من التحول والارتداد في الفكر. طالما أنا مرتكز على فكري كعضو التحليل والفهم الأوحد، أبقى بعيدًا عن الإدراك الحقيقي، عن الحدس العميق، وعن المعنى الجوهري والأثيمولوجي للـ “intellectus: intus / legere” أي القراءة الداخلية والجوهرية. ما دام الإنسان منغلقًا في إطار الفكر المنطقي الضيق، لن يتمكن من الدخول في المعرفة الشخصانية التي تتفوق على المعرفة الحسابية والفيزيائية.
هذا النوع من المعرفة هو ضرورة ليس فقط في الإطار اللاهوتي، بل في إطار الواقع الشخصاني: أنى للعقل وحده أن يعي معنى الحب، أو البغض، أو الصداقة، أو الندامة، أو المشاعر، أو الإرادة؟؟ مهما حاول العقل فهو لن يتمكن أن يحصر ويفصل فهم وشرح هذه الوقائع التي تتخطى بعده ومؤهلاته الطبيعية.
أبعد من المنطق
لذا أود أن أقترح تعبيرًا يوضح كنه معرفة القلب: المعرفة ما وراء المنطقية “meta-logical recognition”. هذا النوع من المعرفة لا يتجاهل المنطقي، هو ليس مرادفًا لـ “اللا منطقي”، بل هو مرادف لـ “أكثر من منطقي” و “ما يتجاوز المنطقي”.
لكي أوضح الفكرة، أود أن أستعين بشرح معنى المعمودية والأسرار الذي يقدمه اللاهوتي الأرثوذكسي الراحل أوليفيه كليمان (Olivier Clément): “يجب أن نصلب كل منطقية. فنعمة الميلاد قد تملكت غور القلب، عمق الكيان. عمق الكيان هذا هو أمر يسبق تمايز الملكات (التمايز بين الفكر والإرادة)، هو موضع سكنى الله. نعمة المعمودية هي تحول جذري لعمق النفس يعمل يهدف إلى طرد القوى التي تستر من الله. يطارد العماد هذه القوى التي تتحاشى الله فتلتجئ إلى سطح النفس، في كل الأبعاد الخارجية من ذواتنا، وهي تسعى إلى إبقاء حضور الله في اللاوعي الذي هو عمق الكائن”.
كليمان يدعو إلى “صَلْب” المنطقية، إلى تجاوزها. لأن المنطق هو فصل الفكر عن الإرادة وعن الإحساس، وكل فصل في الإنسان يفقده القدرة على إدراك أبعاد ما يحدسه. كما ويقدم كليمان وجهة لاهوتية ملفتة: الفصل في إدراك الحواس هو من نتائج الخطيئة، وهبة المعمودية تعيد للإنسان القدرة على الثقة بالحواس الروحية الباطنية، بالقلب، الذي يدرك ويحدس بشكل متجانس ومتكامل.
Zenit