“مقالة في الحرية” هي بحث في قضية الحرية، تضع الأسس الفكرية “لنتحاور من جديد”، كما عبَّر عزمي بشارة وأراد. والتحاور ليس لغواً، بل هو “مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة” (لسان العرب) ولا يكون التحاور إلّا عند الكائنات العاقلة والحرة والمستقلة والمُدركة واقعها، ولزوم تغييره لتحقيق “ما يجب أن يكون”، لذلك يبدو مهمًا تحريك العقل والنظر بمسؤولية شديدة في أفكار “مقالة في الحرية”، قبل أن يدركنا النظام العالمي الجديد وننتهي إلى تفتيت “الوطن العربي”، فيما يسعى الآخرون الى ترسيخ مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” بديلاً، فإن تمكّنوا يحقّقون النصر في “حربهم على ثقافتنا”، ويتحقّق حلم قادتهم في “كتابة تاريخهم بأنامل من ذهب”.
ليست الحرية موضوعاً جديداً على الفكر الإنساني، إنّما كانت وستبقى موضوعاً تجاذبياً بذاته. فهي مطلب كل كائن عاقل ومدعاة قلق وخوف لكل إنسان، إذ تضعه في كل لحظة في “مواجهة القرارات والمسؤولية”. وتبقى مقاربة موضوع الحرية والتحرر خطرة ومصيرية للإنسان والمجتمع، وتحتاج إلى الدقة والحذاقة في تصنيف المفاهيم وفحصها ومناقشتها، خصوصاً عندما يكون الهدف “تكوين مفهوم الحرية للبحث في مسألة الحريات وشروط تحقيقها وحدودها وعوائق ممارستها في المجتمعات العربية”، سعياً “لتغيير الإنسان، وتذكيره بأنه حر، وأنّ بإمكانه أن يختار” لتكوين دولة تحترم فيها الحريات وتتحقق داخل الدولة الديموقراطية وليس خارجها.
تتعلق قضية الحرية بالأخلاق، فيجب تناولها بناءً على شرطين أساسيّين: “المسؤولية الأخلاقية، وتعني وعي الارادة والارادة الواعية”، والحرية “وهي قيمة في حد ذاتها باعتبارها ارادة واعية لوجود خيارات وقدرتها على الاختيار”.
وبجرأة الناقد وأناة الباحث لفهم تركيبة إشكالية الحرية تطرّق عزمي بشارة الى بعض المذاهب الفلسفية، فجاء الكتاب في قسمين: الأول، نظري يتناول المعالجة الفلسفية ونقدها، والثاني، يعرض مسائل الحرية الكبرى في المجتمعات العربية في أيامنا هذه. واعتمد على منهج التحليل النقدي لتنقية مفهوم الحرية انطلاقاً من “أساس الحرية” و”الحرية في تجلّيها كحريّات المجتمع وفي مجالات النشاط الإنساني المختلفة، وفي الموقف منها باعتبارها قيمة إيجابية في التعامل مع مصادرتها كشرٍّ”، ألا وهي “حرية الارادة القائمة على استقلالية الانسان الفرد”، ويميّز بشارة بين الحرية في البداوة القائمة على ذوبان الفرد في الجماعة، فلا حرية فردية ولا كيان فردي مستقل، فيما الحرية في دولة المواطن قائمة على العقل وحرية ارادة الفرد وعدم التبعية لأي سلطة سياسية خارجية.
هل نستطيع أن نبلور مفهوماً للعدالة في مجتمعاتنا العربية؟
يتألف مفهوم العدالة من 3 مركّبات بنسبة متفاوتة، وهي: الحقوق المرتبطة بالمواطنة المتساوية، العدالة الاجتماعية، الحريات المدنية والسياسية، وتضاف إليها مسألة الهوية.
إنّ الهويّة هي مساواة الشيء مع ذاته لا مع المغاير. لذلك تضمّن النضال لتأكيدها بعداً متعلقاً بالمساواة داخل جماعة الهوية، على الأقل، إن لم يكن بين الهويات المختلفة، لذلك يتضمّن تأكيد الهوية دائماً بعداً يتعلق بالمساواة داخل جماعة الهوية. إنّ المساواة بين المواطنين تلغي انتماءاتهم الأخرى.
إنّ فهمنا للمواطنة كأساس يجب أن يقوم عليه الانتماء، هو فهم للانتماء الهويّاتي في الدولة الحديثة، لا ينتقص من الدورالتاريخي للجماعة الدينية أو اللغوية أو الاتنية. فالجماعة لا تقوم كخيار فردي، لكننا نؤسّس الانتماء إليها على الخيار الفردي كي تقوم على فكرة المواطنة وحقوق المواطن، وليس على حسابهما، إنها افتراضات نبني عليها مفهوم المواطنة المعاصرة، لكنها على الرغم من عقلانيتها صوغاً واشتقاقاً، فإنها ليست افتراضات علمية، بل تتدخل في وضعها رؤى معينة تقوم على قيم ومصالح وغير ذلك من دوافع البشر. يجب أن نحسم أولاً مسألة أنّ الدمج الاجتماعي على مستوى الهوية ما عاد ممكناً بالقوة.
لم تنجح الدولة الوطنية العربية في توفير المناخات الاقتصادية والاجتماعية التي تساهم في تقليص الفجوات في مستويات المعيشة والتعليم والخدمات الصحيّة، بما يساهم في عملية الاندماج الاجتماعي وبناء الأمة / الدولة، فضلاً عن قمع الحريات وغياب الحقوق السياسية التي تمنح المواطنة معنى فعلياً.
إن التعايش يدير الخصومة ويكرّسها في الوقت ذاته. والتعايش والإخاء بين الكيانات الثقافية والطائفية من دون المساواة في المواطنة، وهي الأساس المشترك الذي تقوم عليه، هما تسميتان لحرب أهلية باردة يمكنها أن تشتعل في أي لحظة. لذلك ليست العلاقة بين الاندماج الاجتماعي والعدالة مسألة رفاهية، بل هي قضية جوهرية لا يمكن الدولة الحديثة، خصوصاً الديموقراطية، أن تتجاوزها.
في ضوء نشداننا الحرية والعدالة على أساس المساواة في المواطنة، تعالوا لنتحاور من جديد.
جوزف باسيل
النهار
الوسوم :مقالة في الحرية: لنتحاور