“أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح، فماذا يملّحه؟ لا يصلح إلاّ لأن يرمى في الخارج فيدوسه الناس” (متّى 5، 13). “أنتم نور العالم. لا يمكن أن تخفى مدينة على جبل، ولا يوقَد سراج ويوضع تحت المكيال، ولكن على المنارة حتّى يضيء لجميع الذين هم في البيت. هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس ليشاهدوا أعمالك الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات” (متّى 5، 14-16). حين شاء يسوع أن يتحدّث إلى تلاميذه عن رسالتهم في العالم استعار صورتَي الملح والنور كي يوجز لهم الشروط اللازمة التي ينبغي أن يكتسبوها قبل انطلاقهم إلى المسكونة لنشر البشارة الجديدة. كأنّه شاء أن يقول لهم: لا تنطقوا باسمي إنْ لم تصبحوا ملحًا ونورًا. والجدير ذكره هو أنّ يسوع عندما قال لهم: “أنتم ملح الأرض… أنتم نور العالم”، إنّما قاله على سبيل الرجاء بأن تلاميذه سيسعون إلى تحقيق ما يطلبه منهم، لا من باب إكسابهم فضائل لم يسعوا إليها. والدليل هو يهوذا الإسخريوطيّ الذي كان مدعوًّا إلى أن يكون ملحًا ونورًا، غير أنّه صار إلى الظلام. الملح هو المادّة التي تحفظ المأكولات، ولا سيّما اللحوم، من الفساد. فكما يحفظ الملح اللحم من أن يفسد وينتن ويجعله صالحًا للأكل مدّة أطول، هكذا المسيحيّون مدعوّون إلى يكونوا ملحًا يحفظهم ويحفظ العالم من الخطيئة والفساد. لذلك يطلب المسيح من أتباعه أن يكونوا ملح الأرض لا ملح أنفسهم فقط. وهم لا يمكنهم أن يكونوا ملح الأرض إنْ لم يصبحوا ملح أنفسهم. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم (+407): “إنّ الطبيعة البشريّة كلّها فسدت وأنتنت بخطاياها. لذلك يُطلب منكم فضائل نافعة وبالغة الضرورة للعناية بالجميع”. كما تنبغي الإشارة إلى ما قاله القدّيس كيرلّس الإسكندريّ (+444) إنّ الكلمة الإلهيّة شُبّهت بالملح “بسبب طعمه الجيّد ولذّته”. مَن يفقد طعم الملح الجيّد واللذيذ يصبح بلا نفع لغيره ولا لنفسه. يجمع المسيح ما بين الملح والنور كي يؤكّد على ارتباط التعليم بالأعمال الصالحة، فبدون هذه الأخيرة لا يصدّق السامعون المبشّرين بالكلمة الإلهيّة، إذا لم يروا أعمالاً تنسجم وما يبشّرون به. “هكذا فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات”، فمَن يعلّم ويعمل بمقتضى ما يعلّمه يكن تعليمه صادقًا. أمّا مَن لا يعمل بمقتضى ما يعلّمه فيكن كاذبًا. فإن يعمل المرء بدون أن يعلّم لأفضل كثيرًا من أن يعلّم ولا يعمل بما يعلّمه. أين المسيحيّون اليوم من هذه الأقوال؟ هل هم ملح ونور؟ لسنا هنا لندين أحدًا، غير أنّ التجربة الكبرى التي سوف تؤدّي إلى هلاك الكثيرين هي تجربة الاستكبار التي سقط فيها بعضهم، إذ اعتبروا أنفسهم ملحًا ونورًا، فيما هم ما زالوا في حاجة إلى أن تملّحهم الكلمة الإلهيّة، وأن يستنيروا بهديها أيضًا. إذا لم يتخذّ المسيحيّون المسيح قدوةً في كلّ شيء، وإذا لم يجعلوا حروف الإنجيل حياة تسري في عروقهم، فلا يحقّ لهم الزعم بأنّهم ملح الأرض ونور العالم. رجاؤنا هو أن نصبح ملحًا طيّبًا يستمدّ نكهته من الملح الأزليّ، ونورًا ساطعًا يستمدّ وهجه من النور الذي لا يغرب، من المسيح السيّد.