هو عابر سبيل يلملم الألوان المشتَّتة غير المتناسقة ليرسم بها لوحات تحاكي حياتنا اليومية، وتدعونا إلى التقاط الحسن في ما تراه أعيننا. هو عابر سبيل يبحث عن صورة الله في كل إنسان يلتقيه، يبحث عن جمال الله في كلّ إنسان، ليخطّه أيقونةً حيّة تسعى على قدمين. هو عابر سبيل يحيا اللحظة، فيحوّلها أبديّة. الزمن، وفقه، انقضى. ليس ثمة زمن إلا زمن المسيح، زمن ملكوته، زمن اللازمن.
ينقلنا الأب إيليّا متري، في “منمنمات يوميّة” (تعاونيّة النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع)، إلى عالم جديد مغاير كلياً عن عوالمه التي دخلناها في إصداراته السابقة. هو مبدع أسلوب في كلّ تأليف جديد. كلّ مضمون له إطاره الخاصّ غير الرتيب، له نمطه غير المألوف. ينمنم الأب إيليّا حكاياته بيد الفنّان الذي يرمّز، بزخارفه، الفكرة الكامنة، ليقدّمها قطعةً تجذب عين المشاهد، فترميه في حضرة الله. يتجاوز القارئ المنمنمة ليقرأ ما بين الوجوه والأحرف والألوان وجه المسيح الناضر. ينقش الأب إيليّا منمنماته كما تنقش الريحُ الرمال فتحيلها لوحات متماوجة، وكما تزيّن الورودُ الحقول فتصيّرها لوحات متدرّجة بأبهى الألوان، وكما تنحت قطرة الماء الصخر الجلمود فتجعله أصفى وأنقى. يخطّ الأب إيليا منمنماته بيراع ليس من هذه الدنيا، بقلم ليس للهوى أمرٌ عليه. لا يسكن يراعه ولا يستكين، يصارع التراكم الكمّيّ في يوميّاتنا، ويستلّ منها النوعيّة الصالحة للبنيان والسعي إلى التقدّم في “الحياة في المسيح”. الوقت، وفق الأب إيليّا، ليس للتزجية، بل هو أوان العمل. في كلّ لحظة من لحظات يوميّاتنا، ثمّة الله حاضر، المسيح يخاطبنا، ينادينا، فلنصغِ لصوته الأبهى من كلّ الأنغام والألحان. “افتدوا الأوقات فإنّ الأيّام شرّيرة”، هذه المنمنمات تنبّهنا إلى أنّ أوقاتنا جُعلت لنفتديها، لا لننثرها هباء. كأنّ الأب إيليّا في منمنماته المزدانة بالمعنى مدوِّن في “سِفر الوجوه” (تعريب “فايسبوك”). هو دوّن أفكاره، يوماً بيوم، على ورق، عوضاً عن الحائط الافتراضي. هو أراد أن يحيا ويكتب، يومًا بيوم، “فيكفي كلّ يوم شرّه”، لكنّه لم ينسَ قول الربّ أيضاً: “اطلبوا أّولاً ملكوت الله وبرّه، وكل شيء يزاد لكم”. هو بحث عن البرّ في شرّ يوميّاتنا وعبثنا، لنغلب بالبرّ الشرّ. واضح أنّ الأب إيليّا قد كتب يوماً بيوم، فليس من رابط بين يوميّة وأخرى. وبذا يكون قد أرانا أنّ الله يكلّمنا دائماً، لم يقفل باب الكلام مع الإنسان، هو له سبله التي لا يدركها بنو البشر. ونحن ما علينا إلاّ أن نفتح عيوننا وقلوبنا، لنلتقط الإشارات والعلامات التي يرسلها الله إلينا، ونحن عابرون هنا وثمّة. الله هو المبتغى، هو الأول والآخر، هو الألف والياء، وما بينهما عبور وجيز، إطلالة وجه، نظرة حبّ، لمسة حنان، بسمة فرح. “كن عابراً”، أبانا إيليّا، فتكنْ أبدياً. منمنماتك العابرة ترمينا في حضن الأبديّة.
النهار