يمكننا أن نحيل من يقول إن اللغة العربية صعبة وغير طيّعة إلى زمن كانت فيه لا تُعتَبر كذلك. ففي كتابها عن غرناطة وعنوانه “زينة الدنيا” (2002) كتبت ماريا روزا مينوكال عن تأثّر اللغة العبرية بالعربية بسبب تعايشهما في الأندلس، أن اشتمال العربية على الشعر والأدب والعلم وغير ذلك من الموضوعات غير الدينية، بالإضافة إلى الدينيّة، حمل اليهود على العمل على محاكاتها فطوّروا اللغة العبرية من لغة لا يكاد نطاقها يتعدّى الدين والعبادة إلى لغة تتسع لآداب ومعارف شتّى.
في الزمن الذي يسميه الأوروبيون عصور الظلام كانت العربية، خاصة في الأندلس، لغة الفكر والشعر والعلوم المختلفة. وكتب بول الفاروس، المثقف الأوروبي من قرطبة، في منتصف القرن التاسع متأففاً: “المسيحيون يحبون قراءة أشعار العرب ورواياتهم. وذلك ليس من أجلِ دحض ما يقولون بل ليتعلموا كتابة لغة عربية صحيحة وأنيقة. للأسف أن كل الشبان المسيحيين الموهوبين يقرأون اللغة العربية ويدرسونها بحماس، متناسين لغاتهم الأصلية. في مقابل كل واحد يكتب رسالة إلى صديق باللغة اللاتينية، يوجد ألفٌ ممن يعبّرون عن أنفسهم بلغة عربية أنيقة ويكتبون بها أشعارًا أفضل مما يكتبه العرب أنفسهم” (ماريا روزا مينوكال، 2002، 66).
وفي العالم العربي نتأفّف حالياً من انقلاب الآية، بالنسبة إلى اللغات التي يرغب تلامذتنا في تعلّمها، وكثيرًا ما يساندهم أهاليهم وبعض معلميهم في عزوفهم عن العربية وتوجّههم إلى لغات أخرى. فهل كانت اللغة العربية طيّعة وجاذبة وغدت غير صالحة للتعبير عن المعارف والآداب؟
من أكثر ما يتردّد عن أسباب صعوبة اللغة العربية، القول بازدواجيتها أو حتى بأنها لغتان: محكية وفصحى. وهذا الوضع ليس حكراً على العربية. فازدواجية أو ثنائية مماثلة توجد في اللغات الصينية والألمانية والأندنوسية واليونانية. والأخيرة اعتمدت العامية التي يسميها فيرغيسون ولغويون آخرون “لغة دنيا”، لغة رسمية للبلاد. واللغة الدنيا هي اللغة المحكية، لغة الحياة اليومية والتقاليد التي تحكم الواقع المعيش ولغة الأقوال والشعر الشعبويّين، بينما اللغة العليا هي المكتوبة التي نتعلمها في المدارس، ونسمي العربي منها “الفصحى” والتي يرى فيرغيسون أنها الأجمل والأنسب للتعبير عن الأفكار المنطقية والهامة. أما عن تعلّم لغة عربية غير لهجة الأم أو لغتها، فعندما نجد ذلك صعباً أو مستعصياً، بعد تعلّم لغات أجنبية عدّة، رغم أن العربية الفصحى هي أقرب إلى لغتنا الأم التي ننشأ عليها، فمن المرجّح أن تكون الأسباب نفسية أو تربوية أو تعلّميّة.
ويرى مصطفى صفوان، اللغوي والعالم النفساني، أن الحط من قدر اللغة الأم، الحاسمة التأثير في تكوين الهوية، وتقديس اللغة التراثية وجه من أوجه تأليه السلطة والتقاعس عن مواجهة الواقع. ومن علائم هذا التأليه في تعلّم اللغة العربية، إجبار الطلاب على قراءة الشعر الجاهلي وتعلّم عبارات لن ترد في قواميس حياتهم، عندما يكون تخصصهم في غير تاريخ اللغة العربية أو علم الالسنيات.
ويعتبر صفوان أن هذا التأليه للغة بعيدة عن معيش الناس سبب أساسي ليس فقط لحيرة الهوية أو هشاشتها أو حتى ضياعها، بل أيضاص لما نعاني منه من إساءة فهم الدين.
ولتفضيل لغة أجنبية على اللغة الأصلية، من قبل الأهل والمعلمين، ولتفرنجهم وسعيهم اللاهث في أثر هوية ليست لهم، تأثير في نفوس النشء مشابه لتأثير تأليه اللغة التراثية. فتماهي الصغار بأناس يتبنون التفضيل كنماذج في تكوين ذواتهم يؤدي إلى ضعف استبطانهم لهويتهم والحط من قدر أنفسهم ,عزوفهم عن تعلّم لغتهم. وتثمين تعلّم اللغات الأجنبيّة والعمل على إتقانها يمكن أن يتمّ دون التنكّر للهويّة واللغة العربيتين. فمثلاً، أذكر أن أفضل معلمة لغة إنكليزية تتلمذت عليها، وكان اسمها ندى بارودي، بقيت متمسكة ومعتزّة بهويتها العربية الراسخة وعاملة على أن يكون طلابها معنيين بمجتمعاتهم العربية وقادرين على النجاح في نطاقها.
أما بالنسبة إلى ازدواجية اللغة العربية، فأرى أن العربية ليست لغتين بل ثلاث لغات، فبالإضافة إلى المحكيّة والفصحى التراثية، لغة الدين والماضي، الذي قد نتعلّق به لأسباب غير لغوية أو حتى غير دينية، ككونه شهد مجداً فقدناه، توجد لغة عصرية سليمة وأكثر مباشرة وأقلّ تكلّفًا، قد نسميها العربية الحديثة. وهي ما استخدمه الأدباء المهجريون ومعظم كتّاب عصر النهضة وما يستخدمه كثير من كتّاب العربية المحدثين، عندما يتناولون أوضاعاً وتطلّعات راهنة بحريّة وإبداع، وعندما يكون رائدهم الأفكار والمعاني الجديدة، بدل اللهاث في أثر الاستعادات اللغوية المكرّرة. وأعتقد أن ما يميّز هؤلاء عن معظم من يقبعون في اللغة التراثية، أن التراثيين غالباً ما يغرقون في وعاء اللغة فيبقى محتوى ما يكتبونه ضحلاً فكرياً ضعيف الوقع وبعيداً من المعاناة المعيشة وعن اجتراح حلول لإشكالاتها. من هنا يأتي استخدام التعبير “إنشاء عربي” في موقع ذم واستخفاف، لكونه يرمز إلى الكلام المنمّق الذي قلما يقول شيئًا أو يترك أثرًا. ولا بدّ من الملاحظة في هذا السياق أن عودتنا أو عودة بعضنا إلى التعلّق باللغة التراثية، بعد عصر النهضة، مؤشر إلى انحطاط وتراجع عن ذلك العصر.
وفي اعتقادي أن العربية الحديثة هي التي يجب التركيز عليها في المدارس. فهي اللغة الحية التي تماشي الزمن الراهن في مفرداتها وتراكيبها، وفي كونها قيد التكوّن وموائمة للتجدّد والتطوير. فلا جدوى من تعلّم لغة ثالثة مضافة، غيرها وغير اللغة المحكية، صعبة وقليلة التداول. فلو ركّزنا الاهتمام على الحثّ على توخي التجديد والبساطة في التعبير، وعلى إعطاء المحتوى وعمقه ووضوحه وسلامة منطقه وارتباطه بالواقع جل اهتمامنا، لخدمنا اللغة ولفتحنا قنوات الاهتمام والتماهي بينها وبين متعلّميها.
أما بالنسبة إلى الموضوعات التي نفرضها على المتعلّم في الكتب المدرسية، فلا أزال أذكر الضجر والسخرية اللذين كان ابني يقرأ بهما الدرس عن “بيتنا في الجبل” أو “رحلة في الحافلة” أو “قالب الحلوى”. وحديثاً يقابل أحفادي ما أقرأه لهم من قصص عن الكوسا أو البندورة أو الخوف أو الاستعداد الصباحي للمدرسة بالتثاؤب والهرب. وبالمقابل، أذكر أنني بعد شراء كتبي المدرسية للصف الابتدائي الثاني انفردت في غرفتي بكتاب القراءة العربية، الذي كان اسمه “المشوّق” ينطبق عليه، أسلوباً ومضموناً، فكنت وكأنني أنفرد على جوع بوجبتي المفضلة. فالموضوعات التي ضمّتها دفتي ذلك الكتاب من قصص شعرية وخيالية كتبها أدباء من الدرجة الأولى، كانت تحثّني على الاستزادة. وطرائق التعبير فيه كانت توقظ حسي بجمالية اللغة وبقدراتها الغنيّة المدهشة.
ولو صعدنا تربويًا إلى المرامي الأبعد، لوجدنا أن شعوبنا العربية، التي تبدو حالياً وفق تصنيف الفيلسوف هيغل للتطور التاريخي، في مراحل مادية بدائية من وعيها لذاتها، بحاجة إلى إيقاظ وعيها لما يكمن فيها من أبعاد فكرية وروحية. أما تشجيعها على أن تبقى غارقة في الماديات وفي الأبعاد العملانية المباشرة فيضعف من تمرّسها بالتجاوز والتطوّر، ويبقيها في الموقع المتدني حضارياً، وبالتالي اجتماعياً وسياسياً. فلم لا نعمل على إيقاظ وعي متعلمينا وعلى ري ظمأهم الطبيعي إلى الأرحب والأبعد إنسانية، أخلاقياً وفكرياً؟
ولمن يعترض متسائلاً إن كان للغة علاقة بالتاريخ او السياسة، أستعين بتأكيد اللغوي رشيد بوطيّب على الدور المركزي للحريّة من أجل التعاطي الصحي مع اللغة، بما هي “تجاوز وتخارج”. إذ يرى بوطيّب أن عبادة الأفراد في المجتمعات التوتاليتارية والمتخلّفة، وطغيان الاستهلاك وتأثير الدعايات، يسبب غربة عن الذات واستلابًا لغوياً وتباعداً بين الشعب ونخبه. وإن لم تتوافر الحريّة للمعلمين في مجالات كالدين والسياسة كما في عمليّة التعليم ذاتها يصعب عليهم إعطاء فسحة من الحريّة للمتعلّم.
ومن علائم ما يؤدي إليه خنق الحريات في مجال تعلّم اللغة ما أذكره من أيام التلمذة من أن الكتاب الذي استخدمناه لتحسين أدائنا باللغة الإنكليزية كان يحضّنا على الابتعاد عن “الكليشيهات”، أي المعاني والصيغ الجاهزة والمستهلكة، بينما كنّا في حصص اللغة العربية لا نزال متحيّزين بل مجبرين على أن يكون الهواء عليلاً والضرب مبرحاً، وأن يكون زيد وعمرودون سواهما الضارب والمضروب. من هنا، أعتقد أن نهج بعض التربويين في جعل تنسيق تعلّم اللغات العربية والأجنبية مشتركاً من شأنه أن يسهم في تحديث النظرة إلى المتطلبات اللغوية المرغوبة وبثّ الحياة من جديد في لغتنا الغنيّة الجميلة. وفي هذا السياق، أتفق مع قول صادق العظم من أن تقوقع مجتمعاتنا في غيتوهات لا تدخلها شموس مغايرة تدمير للذات والحكم عليها بالتخلف الأبدي (ذهنية التحريم، 199)، وأوافقه على أن العلاقة بين الشرق والغرب “امتدادية وتمدّديّة” (دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة) وعلى أن التلاقح بينهما يفيد الشرق من حضارة الغرب التي تسبقه حاليًا، كما أفاد الغرب عندما كنا نتقدّم عليه في العلوم والمعارف. فإن كان تعليم اللغة في الغرب استنبط أساليب لتحديثها وتطويرها، فلم لا نستفيد من محاكاة تجربته، شرط أن تنطلق المحاكاة من تقدير حرّ لما نحن بحاجة اليه، وليس من تقليد أعمى.
ورغم أنني لا أدّعي الإحاطة بكل الكتب المدرسية لتعلّم اللغات وبكل ما يكتب للنشء من كتب للمطالعة، فما لاحظته بالنسبة إلى كتب تعلّم اللغات عامة أنها تراجعت أسلوباً وغدت أكثر تركيزاً على الأمور العملانية وعلى المعلومات، على حساب الموضوعات الخيالية والإنسانية والطريفة. ولعلّ هذا ينبع من قرار بإبعاد الناس عن التفكير في الأمور الأبعد أثرًا، كي يغدو أطوع إرادة وأسهل قياداً.
نجلا حمادة
النهار