سيدي وصديقي بولس، كم أنا مُشتاق لك يا عزيزاً تربَّعَ على قلوبنا ونَهَلَ من عرشِ سُلطان العزة والمحبة الذي استلهمت فأمسيت لنا أباً مُلهَماً مُلهِماً، كل الأنظار يا عزيزي، مشدودة إلى حلب. حلب الجريحة، حلب المُتألمة، حلب الألم والرجاء، حلب الليونة والصلابة، حلب بوابة الشرق والباب إلى البحر، حلب الشهباء، حلب المدينة البيضاء، حلب مُلتقى الأديان والثقافات والحضارات، حلب ذكاء الاستيعاب، حلب موسيقى العقل والقلب، حلب كرم الضيافة والأخلاق، حلب مكان الوحدة والتنوع، حلب المعبَر الشرقي الاستراتيجي والمَنفذ النافذ الذي لا مَفرّ منهُ، حلب ملتقى التأثيرات التي تحملها من الغرب أمواجُ المتوسِّط والتي تتلاقى مع مصاعد الداخل السوريا العقليّة والعُمق المشرقي وبلاد ما بين النهرين، حلب معشوقة الثقافة وألوان الفكر وفن الكلام والخطابة، حلب الساحرة بأنغامها المشرقية، حلب السكرانة بالشعر والقدود والتي تُسكِرُ كل روح تُنشِدُ الطرب، حلب الجغرافية العقلية لفن حسن الأكل التي زاوجت كل المطابخ والعطور والأعشاب، حلب مُدبِّرَة التجارة على خط طريق الحرير ومُلتقى الصناعات، حلب البنت البكر لأنطاكية المستقيمة، حلب جارة أنطاكية، مدينة الله العظمى، حلب سمعان العامودي أبو العامودييّن شرقا وغربا، حلب اليوم والأمس، حلب الجغرافية والتاريخ، هي اليوم “حلب الأم” التي تبكي جميع أبنائها. فحلب عاشت وتعيش أقسى تجربة خيبة ورجاء، موت وحياة، صلب وقيامة. قلبنا يدمع على كل قطرة دم هوت. لا نخشى على الحجر بل على دمار البشر. فالبشر أهم من الحجر ومشكلة الحروب الهوجاء والهمجية أن لا ثمن فيها للأثمان والقيَم القائمة بذاتها. فالإنسان فيها هو، بداية ونهاية، الضحية الكبرى، أكان شيخا، شابا أم طفلا، رجلا أم امرأة. نصلي لعودة السلام والإنسان لربوعها الذي لا يكتمل إلا بعودتك. فمَن يَذكرُ حلب ولا يذكرُ سيِّدَها وملاكها المُقام عليها بنعمة الرب مِطرانا أي أسقفا ناظرا بالقلب والبصيرة الروحية؟
سيدي، لم أخاطبك منذ مدة وأنا في كل صباح أُصبِّحُك وفي كل مَساءٍ أُمَسّي عَليك. لم أخاطبك منذ مدة وكأني مع مرور الوقت على تغييبك دخلت بعد عدة رسائل إليك، وهي، أي الكلمة، سلاحي الوحيد لنُصرَتِكَ، في سباقٍ بين الحزن والفرح، بين الإيمان والإنكار، بين الرجاء واليأس، بين الأمل والخيبة، بين الإحباط والثورة. فالأيام والأسابيع والأشهر تتوالى وتتدحرج بسرعة وأنت لا تزال غائبا مُغيَّبا. الأيام تتوالى منذ تغييبك كحَبَّات مَسبَحَةٍ لا قرار لها ولا جواب. لم أخاطبك منذ مدة، وكأن الخوف بدأ يتسلل إلى مداخلي ومفاصلي وكأني كنت مُحبَطا وثائرا. تائهاً في ثورتي، أفتش عن ثغرة ورافعة، ثائراً على كل شيء ولا شيء، على الذين غيَّبوك وعليك أنت كونك غِبتَ وكم نحن وأخوك وكنيسة أنطاكية بأمس الحاجة إليك اليوم، ثائراً على الذين جعلوا سلاسِلَ في يديك وثائرا على كل منا، على ضُعفنا وعَجزنا عن كسر سلاسلك، فنُحررك، ونتحرر نحن. ُننهي غَيبتُك، فنحضُر نحن. نُحييك، فنعيشُ نحن. نضيءُ ظُلمتك، فنستنير نحن. فنحن يا بولس أسرى أسرك. مُغيَّبون طالما أنت لم تحضر. فأنت يا بولس القضية الأنطاكية. لم أخاطبك منذ مدة وأنا أصبحت مثل محمود درويش الذي كان يعشق عمره لأنه إذا مات يوما يَخجلُ من دمع أمه. فأنا بت اليوم أكره الكتابة لك كون هذه المُخاطبة تعني أن الحجاب لا يزال قائماً يَحجِبُ وجهك النيِّر عنّا وأنك لا تزال هناك في مَكانٍ ما ليس بمكان، وفي زمانٍ ما ليس بزمان، بينما نحن هنا محرومون من فرح مُجالستك. لم أخاطبك منذ مدة وكأن الكلام خلص وجَفَّ الحِبرُ وتهاوى القلمُ وتراجعت الهِمَمُ وانحجبت المشاعر ولم يبق إلا الصلاة الداخلية، اللاشعورية، الصابرة والصبورة، صلاة القلب في قلب الصلاة لعودتك. ويسترجعني كلامك لي عن بُعد الرجاء في عمق الإيمان وبُعد الإيمان في عمق الرجاء، ليُخرجني من تأرجحي، فتتشدد عزيمتي ثانية. أعذرنا يا بولس إن خفنا وتهنا وهربنا. فنحن كحاملات الطيب التي ولجت قبر سيدك فرأت الحجر مُدحرجاً ورأت القبر فارغا والملاك مُبشراً بقيامة السيد وقائلا إنه ليس هو ههنا. فخرجن “هاربات” من القبر وقد استولت عليهن الرعدة والدهش ولم يقلن شيئا لأحد، ويضيف البشير الإنجيلي، “لأنهن كن خائفات”. أعذرنا يا بولس إن خفنا، فالخوف لا ينفي الرجاء والإيمان. لا، لم ولن أكلمك بصيغة الماضي بل كما فعلت إلى اليوم، بصيغة الحاضر ورجاءُ المستقبل لأننا يا سيّدي لا زلنا بانتظارك لتمسح كل دمعة عن عين حلب وعن عيون كل المعذبين فيها وخارجها.
المحامي كارول سابا
النهار