أعادت التنظيمات الإسلاميّة المقاتلة في بلاد الشام، وبخاصّة تنظيم داعش، إلى الحياة تعبيرًا فقهيًّا قديمًا نظّم، من وجهة النظر الإسلاميّة، وضع السكّان غير المسلمين، ولا سيّما اليهود والنصارى، في الدولة الإسلاميّة، هو تعبير “أهل الذمّة”.
لم يكن هذا النظام، عبر التاريخ، مثاليًّا على الدوام، لأنّه كان خاضعًا لأمزجة الخلفاء والسلاطين والأمراء والولاة، ولكن أيضًا الفقهاء والمفتين المستعدّين في سبيل أرضاء أولياء أمرهم إصدار الأحكام والفتاوى التي ترضيهم. لذلك كان ثمّة حقب يسودها التسامح والانفتاح، وحقب أخرى يسودها التضييق والاضطهاد والتمييز المهين.
لذلك، نرفض هذا النظام التمييزيّ، جملةً وتفصيلاً. ففي زمن دولة المواطنة وحقوق الإنسان، والمساواة التامّة بين المواطنين، بات من غير الجائز التمييز بين مواطن وآخر بناءً على الدين أو المذهب أو الجنس أو العرق أو اللون. نرفض، تاليًا، نظام “أهل الذمّة” الذي يجعل من غير المسلمين أنصاف مواطنين، أو أشباه مواطنين من الدرجة الثانية وما دون.
بيد أنّ نظام “أهل الذمّة”، على الرغم من سيّئاته، يبقى أفضل ممّا نشهده حاليًّا في ديارنا، حيث الجميع، مسيحيّون ومسلمون، بمعنًى ما، هم “أهل ذمّة”. حتّى المسلمون أضحوا “أهل ذمّة”، إذ ارتضى معظمهم ألاّ يسعوا إلى قيام الدولة المدنيّة الضامنة لحقوق جميع القاطنين في الوطن الواحد.
بات المسلمون “أهل ذمّة” في بلادهم. أليس ذمّيًّا مَن يقبل بأن يحيا في ظلّ ملكيّة مطلقة غير دستوريّة، أو في ظلّ حكم عسكريّ، أو في ظلّ حكم الحزب الواحد؟ أليس ذمّيًّا المسلم الذي يرغب بمعارضة القائمين على الدولة الإسلاميّة، ولا يحقّ له ذلك لأنّ معارضة السلطان تُعتبر عصيانًا لمشيئة الله؟ أليس ذمّيًّا مَن يرضى أن يكون من رعايا “السلطان”، أيًّا كانت صفته، لا مواطنًا له حقّ محاسبة ماسكي زمام البلاد؟
أمّا، نحن اللبنانيّين، فحالنا ليست فضلى، ذلك أنّنا أمسينا كلّنا “أهل ذمّة”. فالطوائف صادرت أبناءها وجعلتهم أسراها وأسرى قوانينها للأحول الشخصيّة، حتّى لو كانوا من غير أهل الإيمان أو من غير الممارسين للشعائر الدينيّة. الطوائف خلعت عن أبنائها صفة المواطنين، وفضّلت أن تخلع عليهم صفة الرعايا. فأصبحوا في ذمّتها، أي خاضعين لها وللقائمين عليها أكثر ممّا هم خاضعون لوطنهم. أضحى الانتماء إلى الوطن شرطه الانتماء إلى الطائفة والاستزلام لقادتها.
ألسنا كلّنا، نحن اللبنانيّين، أهل ذمّة، وقد بات لكلّ طائفة زعيم أوحد هو القائم بأمره والحاكم بأمره والمطاع أمره، وباتت كلّ طائفة من الطوائف في ذمّة هذا الزعيم الطائفيّ أو ذاك، أو في أسره، يذهب بها حيث شاءت أو حيث لا تشاء؟
ما يقلّل من فداحة مصيبتنا، نحن غير المسلمين، ونقولها بصراحة فجّة ملؤها المحبّة الصادقة، هو أنّ أحوال المسلمين في بلادنا كلّها، المستقرة أمنيًّا وغير المستقرّة، ليست بأفضل حال من حالنا. وقد آن الآوان لأن ننتقل من العبوديّة إلى الحرّيّة والعدل والمساواة.
كلّنا “أهل ذمّة”! نعم. لكنّنا نخشى أن تصبح أوطاننا كلّها “في ذمّة الله”، نبكي عليها بعد فوات الآوان.
ليبانون فايلز