يطلّ علينا “إعلان مراكش لحقوق الأقلّيّات الدينيّة في العالم الإسلاميّ” علامةً مضيئة على درب الاعتراف بالمواطنة التامّة للأقلّيّات الدينيّة في المجتمعات الإسلاميّة. لن نتوقّف عند اعتراضنا على استعمال لفظ “الأقلّيّات الدينيّة” لتمييزه بين المواطنين على أساس دينيّ أو مذهبيّ، بل سنتجاوز اعتراضنا هذا إذا كان القصد من استعمال اللفظ التوصيف فقط.
أتى هذا الإعلان نتيجة مبادرة أطلقتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة بالمملكة المغربيّة بالاشتراك مع منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (الإمارات العربيّة المتّحدة). وقد اجتمع حوالى ثلاثمائة شخصيّة من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتوجّهاتهم من أكثر من مائة وعشرين بلدًا…
بعد تذكيره بالأسس المنهجيّة للموقف الشرعيّ من حقوق الأقلّيّات، والتي يدعو فيها الإعلان إلى الاجتهاد في سبيل “تكييف تنزيل الأحكام” مع المتغيّرات التاريخيّة والثقافيّة في عالم اليوم، يؤكّد الإعلان على “ضرورة التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرّد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحرّيّات التي لا بدّ أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كلّ بلد. غير أنّ الأمر لا يكفي فيه مجرّد التنصيص على قواعد التعامل؛ بل يقتضي قبل كلّ شيء التحلّي بالسلوك الحضاريّ الذي يقصي كلّ أنواع الإكراه والتعصّب والاستعلاء”.
كما يعتمد هذا الإعلان على “صحيفة المدينة” أساسًا مرجعيًّا للمواطنة: “إنّها صيغة مواطنة تعاقديّة ودستور عادل لمجتمع تعدّديّ أعراقًا وديانةً ولغةً، متضامن، يتمتّع أفراده بنفس الحقوق، ويتحمّلون نفس الواجبات، وينتمون – برغم اختلافهم – إلى أمّة واحدة”. لذلك يدعو الإعلان علماء ومفكّري الإسلام “أن ينظروا لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات، بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهيّ والممارسات التاريخيّة وباستيعاب المتغيّرات التي حدثت في العالم”.
اللافت في هذا الإعلان جرأته وشجاعته في الدعوة إلى إجراء نقد شامل للتجارب التاريخيّة، الإيجابيّة والسلبيّة، على صعيد العلاقات ما بين الإسلام الحاكم والجماعات الدينيّة الأخرى الموجودة في ظلّ الدول الإسلاميّة، ووضعها في سياقها الزمنيّ والثقافيّ. ونلمس في هذا الإعلان النأي عن الالتباس وعن اللغة المزدوجة التي كانت سمة من سمات العديد من الوثائق الإسلاميّة السابقة، حيث كان يتمّ التأكيد على الشيء ونقيضه في الآن عينه.
لا ريب، أيضًا، في أنّ الدعوة إلى “تأصيل” مبدأ المواطنة في الفكر والفقه الإسلاميّين يشكّل نقلة نوعيّة لا بدّ منها للوصول إلى المساواة التامّة في المجتمعات الإسلاميّة. وهنا نسجّل، ونحيّي في الآن عينه، غياب عبارة “أهل الذمّة” عن الإعلان، واستعاض عنها بحكم القانون الذي يضمن حقوق الجميع وحرّيّاتهم ويكفلها على السواء. وهذا ليس انتقاصًا من مفهوم “أهل الذمّة” الذي كان له أوانه، وانتهى بانتهاء الظروف الموجبة له.
نرجو أن يلاقي هذا الإعلان التاريخيّ التجاوب التامّ من المرجعيّات الإسلاميّة الكبرى ذات الفاعليّة والتأثير على العموم، فتلبّي دعوة الإعلان إلى “تأصيل مبدأ المواطنة”، و”القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسيّة للتصدّي لأخلال الثقافة المأزومة التي تولّد التطرّف والعدوانيّة، وتغذّي الحروب والفتن، وتمزّق وحدة المجتمعات”. كما نرجو أن يتمّ التجاوب من “مختلف الطوائف الدينيّة التي يجمعها نسيج وطنيّ واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائيّة متبادلة، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومدّ جسور الثقة بعيدًا عن الجور والإقصاء والعنف”.
يختتم الإعلان بالتأكيد على عدم جواز “توظيف الدين في تبرير أيّ نيل من حقوق الأقلّيّات الدينيّة في البلدان الإسلاميّة”. نرجو أن يثمر هذا الإعلان قبل اندثار “الأقلّيّات الدينيّة” أو قبل أن تنقص أعدادها إلى ما يلامس الإبادة. طبعًا، لا يمكن تحميل التطرّف الإسلاميّ وحده المسؤوليّة عن هذا التدهور في حضور الأقلّيّات، علينا ألاّ ننسى الأنظمة الديكتاتوريّة في العالم العربيّ، والتدخّلات الأجنبيّة في بلادنا، ورأس الشرور كلّها الكيان العنصريّ الإسرائيليّ… هي سلّة متكاملة لا بدّ من مواجهتها كلّها كي نصل إلى مجتمعات تقبل التنوّع الدينيّ والمذهبيّ والثقافيّ.